الخميس - 28 مارس 2024

موقف الرأي العام العراقي من الحركات الإسلامية في العراق

منذ سنتين
الخميس - 28 مارس 2024


د. علي المؤمن *||

*باحث واعلامي – رئيس مركز دراسات المشرق العربي
مدخل منهجي
نشير ــ ابتداءً ـــ الى أن موضوع البحث إشكاليٌّ ومتشابك منهجياً، ولذلك ينبغي تفكيكه وفض التشابك بين ظواهره، للوصول الى النتائج العلمية المطلوية. ويعود ذلك لسببين:
الأول: عدم وجود رأي عام عراقي في أية ظاهرة أو قضية داخلية وخارجية؛ لأن الرأي العام العراقي مقسّم مكوناتياً وفق التقسيم المكوناتي الثلاثي المتعارف للشعب العراقي، فهناك رأي عام سني عربي ورأي عام سني كردي ورأي عام شيعي، لكل منها همومه وهواجسه وطموحاته وتطلعاته وأنساقة وسياقات تشكيله الخاصة. وبالتالي؛ لايوجد رأي عام وطني شامل. لكن هناك قواسم مشتركة بسيطة بين أقسام الرأي العام المكوناتية هذه، يمكن أن تشكل شبه رأي عام وطني حيال قضية أو واقعة معينة.
الثاني: عدم وجود حركة إسلامية عراقية واحدة تنتمي الى اجتماع ديني واحد، بل هناك حركة إسلامية شيعية وحركة إسلامية سنية عربية وحركة إسلامية سنية كردية. وبالتالي؛ لاتوجد حركة إسلامية عراقية يمكن أن يكون هناك رأي عام عراقي شامل تجاهها أو تجاه قضاياها وماتفرزه من ظواهر، فلكل مكون رأي عام غالب تجاه كل من هذه التقسيمات الحركية الإسلامية.
والفصائل الحركية الإسلامية المقصودة في البحث هي الفصائل الأساسية التالية:
1-الحركة الإسلامية الشيعية: أهم فصائلها: حزب الدعوة الإسلامية، التيار الصدري، منظمة بدر، المجلس الأعلى الإسلامي، حزب الفضيلة، تيار الحكمة، عصائب أهل الحق، فصائل الحشد الشعبي الشيعية، الإتحاد الإسلامي لتركمان العراق والمؤتمر العام للكرد الفيليين.
2-الحركة الإسلامية السنية العربية: أهم فصائلها: الحزب الإسلامي وغيره من الجماعات الممثلة لفكر جماعة الإخوان المسلمين وبعض الجماعات السلفية السياسية.
3-الحركة الإسلامية السنية الكردية: أهم فصائلها: الجماعة الإسلامية والإتحاد الإسلامي الكردستاني.
ولا ينطبق التصنيف المذكور على الجماعات السلفية الجهادية (الوهابية)، كمنظمة القاعدة وتنظيم داعش؛ لأنها تنظيمات موسمية إرهابية مسلحة وليست حركات إسلامية في المفهوم المتعارف للحركة الإسلامية، رغم أنها تصنف نفسها ممثلة حصرية للإسلام عموماً وأهل السنة خصوصاً.
وبناء على التفكيك المكوناتي المذكور للحركات الإسلامية العراقية، فقد استدعت الضرورة المنهجية أيضاً تفكيك مواقف كل رأي عام مكوناتي من كل حركة إسلامية مكوناتية. ولكننا؛ ركزنا على موقف الرأي العام الشيعي من الحركة الإسلامية الشيعية؛ لأنهما الفاعلان الأساسيان في الاجتماع السياسي العراقي الحالي، ولأن الصراع الدائر بعد العام 2003 ظل مركّزاً على كسب الرأي العام الشيعي أو صناعة أو توجيهه، وخاصة فيما يرتبط بموقفه من الحركة الإسلامية الشيعية.
الرأي العام المكوناتي تجاه الحركات الإسلامية المكوناتية
1-الرأي العام السني العربي:
موقف الرأي العام السني العربي من الحركة الإسلامية الكردية السنية هو موقف متشابك؛ لأن الجمهور السني لايفرق غالباً بين الأحزاب العلمانية الكردية والحركات الإسلامية الكردية؛ فهم بالنسبة له كرد فقط، والموقف منهم كانت تصنعه مواقف النظام في بغداد من الكرد، بسياساته وإعلامه وفتاوى مؤسسته الدينية. ولكن بعد العام 2003 بات هذا الموقف ناظراً الى الحضور الشيعي في السلطة المركزية.
أما موقف الرأي العام السني تجاه الحركة الإسلامية الشيعية فهو يستند الى اتجاه عام سني موروث، أو بالأحرى الى وعي تاريخي نمطي تراكمي سلبي. وقد كرّست سلوكيات الدولة العراقية الطائفية هذا الوعي بعد العام 1921، وضخّمته في زمن سلطة البعث الأولى، ووصل ذروته خلال سلطة البعث الثانية بعد العام 1979. وكانت أهم عناصر إعادة تشكيل هذا الوعي وتضخيمه:
أ‌-إعلام الدولة وسلوكها
ب‌-الحرب العراقية الإيرانية
ت‌-المؤسسة الدينية السنية الرسمية
ث‌-تفاعل الوعي التراكمي التاريخي.
وقد ظل موقف الرأي العام السني العربي متماهياً مع أدبيات الدولة العراقية وسلطتها في النظرة الى الإسلاميين الشيعة، لأن الرأي العام السني كان حتى العام 2003 حاضناً للرأي العام الذي تصنعه مؤسسات الدولة، كونها دولة سنية وتفرز سلطات طائفية سنية تلقائياً وخطاباً طائفياً سياسياً. فكان خطاب الدولة والرأي العام السني العراقي يشتركان في توصيف الإسلاميين الشيعة بأنهم إرهابيين، عملاء، خونة، شروك، عجم. حتى أن مفردة (عجمي) التي تعني (إيراني)، تحمل دلالة في الوعي السني العراقي الحديث أسوء بكثير من مفردتي (اليهودي) و(الصهيوني)، وهكذا بالنسبة لمصطلح (شروكي)، الذي يوصف به المواطن الجنوبي العراقي، فهو يعني الإنسان المتخلف البدائي في فكره وسلوكه وملبسه.
والملفت للنظر أن سياسات الدولة العراقية وقوة الضخ الدعائي لسلطاتها، وخاصة خلال فترة حكم البعث، تسببت في تسرب كثير من أدبياتها الى جزء من الجمهور الشيعي في الوسط والجنوب، وهو الجزء الذي تشرّب ثقافة السلطة وحزب البعث، حتى بات متماهياً مع الرأي العام السني في الموقف من الحركة الإسلامية العراقية.
وازداد الموقف السني السلبي النمطي، احتقاناً ونفوراً من الحركة الإسلامية الشيعية بعد العام 2003، بسبب حضور الإسلاميين الشيعة في مفاصل الدولة العراقية التي يعتبرها الرأي العام السني دولته وخندقه وسلطته، في حين لم يكن الشيعي عموماً والشيعي الإسلامي خصوصاً يزاحمان السني في السلطة ويشاركانه في قيادة البلد قبل العام 2003، بل كان جزء من الشيعة يحارب من أجل السلطة السنية ويصدح بالأشعار والأغاني، إيماناً أو خوفاً. وإذا كان الرأي العام السني قبل العام 2003، يعد الشيعة المصطفّين مع البعث ضد المرجعية الشيعية أو ضد الإسلاميين الشيعة أو ضد إيران، بأنهم حطب حروب البعث، وأنهم عبيد ومغفلون ومسخّرون، كما يعد الشيعة المعارضين للبعث بأنهم إرهابيين وعملاء وخونة وعجم وشروك؛ فكيف به وهو يرى هولاء الشيعة العجم والشروك والخونة وقد أصبحوا شركاء للسنة في قيادة الدولة والحكم بعد العام 2003؟!. لذلك؛ كانت افرازات السلوك السياسي السني المحتقن أزاء هذا التغيير والرافض له وللعراق الجديد برمته، هو تعبير عن وعي العقل السني بذاته وبالآخر المختلف مذهبياً (الشيعة) أو المختلف قومياً (الكرد).
2- الرأي العام الكردي السني:
ظل موقف الرأي العام الكردي السني قبل العام 2003، متعاطفاً مع الشيعة عموماً والتيار الإسلامي الشيعي خصوصاً. وقد صنع هذا الرأي عناصر كثيرة، أهمها:
أ‌-المواقف الإيجابية للمرجعية النجفية والحوزة العلمية من قضية الكرد
ب‌-المظلومية المشتركة التي كان الشيعة والكرد يعانيانها من سلطة بغداد
ت‌-النضال المشترك ضد سلطة البعث
ث‌-الخطاب الإعلامي والسياسي المتعاطف المشترك.
ولكن؛ حدث تبدل تدريجي في الرأي العام الكردي تجاه الشيعة عموماً بعد العام 2003، نتيجة المماحكات والتباينات السياسية وتضارب المصالح، حتى بات الرأي العام الشيعي يعد نفسه ممثلاً عن العراق الجديد وأميناً على دولته وحريصاً على مصالحه، وأن الكرد يعملون ضد مصالح الوطن. وانعكس ذلك على شكل حرب إعلامية ودعائية ساهمت بشكل كبير في إعادة تشكيل الرأي العام الكردي تجاه الشيعة عموماً والحاكمين الإسلاميين الشيعة خصوصاً. وكان التوجيه الإعلامي والدعائي والسياسي البعثي والمحلي والإقليمي السني المنظم، يساهم بقوة في تكريس الوعي السلبي الكردي تجاه الشيعة.
بيد أن الرأي العام الكردي هذا ليس مستقراً وثابتاً، بل هو عرضة للتحول والتغيير، وفق المواقف والأحداث، أي أنه ليس وعياً تراكمياً تاريخياً أو اتجاهاً عاماً، بل هو وعي انفعالي مؤقت صنعته المواقف والأحداث.
3- الرأي العام الشيعي:
لايلتفت الرأي العام الشيعي ــ غالباً ــ الى الفرق بين الحركات القومية والعلمانية السنية العربية والحركات الإسلامية السنية العربية، إذ يصنِّفهم مذهبياً ويعدّهم جميعاً سنة. وهكذا بالنسبة الى نظرته الى الكرد وحركاتهم؛ فهو لايصنفهم مذهبياً، بل قومياً فقط. وهكذا هي نظرة الرأي العام الكردي السني والعربي السني الى الشيعي، إذ يصنفانه مذهبياً ولايلتفتان الى التنوع القومي الشيعي، فالشيعي عندهم هو شيعي، سواء كان كردياً أو فيلياً أو تركمانياً أوعربياً أو شبكياً. ولذلك؛ فإن موقف الرأي العام الشيعي من الحركة الإسلامية الكردية والحركة الإسلامية السنية، هو الموقف نفسه من الكرد والسنة عموماً، والأحزاب الكردية والسنية خصوصاً.
وربما تكون التصنيفات المذكورة أقرب الى الواقع، وهي تتطابق مع تصنيف المكونات الثلاثة لأنفسها أيضاً، إذ يصنف الكرد أنفسهم قومياً غالباً، كما يصنف الشيعة والسنة العرب نفسيهما مذهبياً غالباً.
عناصر تشكيل الرأي العام الشيعي العراقي
وهي العناصر التي يفرزها الواقع الشيعي نفسه، أو العناصر المؤثرة من خارج الواقع الشيعي، والتي تساهم مجتمعةً في تشكيل الرأي العام الشيعي العراقي تجاه الحركة الإسلامية الشيعية، وأهمها:
1-القيم والمعتقدات الدينية:
وهي القيم والمعتقدات التي تحمل قابلية هائلة على كسب الرأي العام الشيعي واستثارة وعيه وعواطفة. والظاهرة الأهم التي تفرزها هذه القيم والمعتقدات في الواقع الشيعي هو النظام الاجتماعي الديني ومؤسساته، وأبرزها مؤسسة المرجعية الدينية والحوزة العلمية، ومراسم الإحياء الدوري لذكريات أهل البيت، ولاسيما ذكرى استشهاد الإمام الحسين في شهر محرم الحرام والزيارة الأربعينية في صفر، وكذلك عموم الحالة الدينية الثقافية والشعبية الشيعية التي تضم الشعراء والخطباء. وبات هذا العنصر ــ بعد العام 2003 ـــ شديد التأثير في توجيه الرأي العام الشيعي العراقي وصناعة مواقفه تجاه الأحداث عموماً والحركة الإسلامية الشيعية خصوصاً. وتقف مرجعية السيد علي السيستاني والحوزة العلمية النجفية، ومرجعية السيد علي الخامنئي والدولة الإيرانية بعنوانها المذهبي، في مقدمة محاور التوجيه المذكورة.
ويمكن القول أن هذا العنصر هو الأكثر سوقاً للرأي العام الشيعي نحو الحركة الإسلامية الشيعية والقبول بها كخيار وحيد يمثل الشيعة في السلطة. وحتى لو لم تكن محاور هذا العنصر تتحرك بشكل مباشر في دعم حضور فصائل الحركة الإسلامية الشيعية في السلطة، إلّا أن الايديولوجية المشتركة للطرفين وأهدافهما الدينية المذهبية الواحدة، يشكل فاعلاً أساسياً تلقائياً في موقف الرأي العام الشيعي العراقي الداعم للحركة الإسلامية الشيعية.
2-القيم الاجتماعية والسلوكية الموروثة:
وهي مجموعة العادات والتقاليد والأنماط السلوكية الاجتماعية التي يعتقد بها الجمهور الشيعي، أو التي يضطر جزء كبير منه للاعتقاد بها، والمتوارثة عبر الأجيال، ومنها الروابط العشائرية والأسرية. وقد ازداد تأثير هذا العنصر في توجيه الرأي العام الشيعي العراقي وصناعة مواقفه بعد العام 2003، في ظل ضعف عناصر الكبح القانوني والأمني والتنظيمي للدولة، بل حماية الدولة للانماط المؤسسية الاجتماعية العرفية، وخاصة النمط العشائري. وقد ظل هذا العنصر الإجتماعي القيمي متماهياً ومتداخلاً مع العنصر الأول (الديني) أو تابعاً له. وهذه التبعية القيمية تصب هي الأخرى في مصلحة الحركة الإسلامية الشيعية، لأنها تقود الى تبني المؤسسات الاجتماعية لخيار المرجعية والمؤسسة الدينية.
3- الخطاب العنصري الموروث:
وهو خطاب الدولة العراقية قبل العام 2003، وتحديداً خطابها المركب: الطائفي العنصري، الذي تبلور تدريجياً بعد العام 1921، أي بعد تأسيس كيانها. وقد ظل خطاب حزب البعث وثقافته وأدبياته يمثل التجسيد الأكثر راديكالية وتأثيراً، إذ لايزال كثير من ثقافة حزب البعث وأدبياته ومفاهيمه ومصطلحاته فاعلاً في وعي الرأي العام الشيعي العراقي وعقله الباطن. لذلك؛ تجد بعض الشيعة في أول لحظة انفعال وغضب، يقوم ـــ بوعي أو بدونه ـــ بترديد بعض المفاهيم والمصطلحات التي كان يفصلّها نظام البعث على مقاس الشيعة عموماً والإسلاميين الشيعة خصوصاً، مثل: عملاء، خونة، خمينيون، إرهابيون، تبعية، عجم وغيرها، كما أشرنا سابقاً. ثم أضيفت اليها مفاهيم ومصطلحات جديدة، مثل الصفويين، أحفاد ابن العلقمي، الذيول وغيرها. وهي ليست مجرد أدبيات ومصطلحات شكلية، بل لها دلالات عميقة في الثقافة البعثية الموروثة.
4- مشاهد الوطن والدولة:
وهي مشاهد الفساد والفشل والشلل في إدارة الدولة العراقية بعد العام 2003، والأحداث والوقائع السلبية التي تنطوي عليها. وقد نجحت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي المحلية والإقليمية المعارضة للحركة الإسلامية الشيعية، وكذا الخطاب الفئوي التنافسي لفصائل هذه الحركة، نجاحاً ملحوظاً، في استغلال هذه المشاهد، لتحقيق ثلاثة أهداف مهمة جداً:
أ‌-تضييع المعايير الموضوعية لقياس النزاهة والفساد، والنجاح والفشل، والوطنية والخيانة، عبر التهويل والمبالغة في تصوير مشاهد الفساد والفشل، وتعميم أدبيات الفساد والفشل والعمالة على جميع مسؤولي الدولة، ما ظل يؤدي الى خلط كبير بين الصالح والطالح، والفاسد والنزيه، والناجح والفاشل.
ب‌-تحميل الحركة الإسلامية الشيعية في السلطة، مسؤولية جميع المشاهد المذكورة، بذريعة سيطرة فصائل الحركة على أغلب مفاصل الدولة، بل وتحميل الحركة مظاهر الفساد والفشل لدى الشركاء السنة والكرد أيضاً
ت‌-إقناع فئات من الجمهور الشيعي بأن سنوات الجمر البعثية كانت أفضل من عراق ما بعد العام 2003
ث‌-إقناع فئات من الجمهور الشيعي بأن الشيعة لايصلحون للحكم، وأن السنة خصّهم الله بالسلطة والحكم.
هذا النجاح النسبي الملحوظ، جعل الرأي العام الشيعي أكثر استجابة لاستغلال الخصوم وتحريكهم ضد الحركة الإسلامية في السلطة.
5- الجماعات والزعامات السياسية:
ونحددها بالجماعات والزعامات السياسية الإسلامية الشيعية، وممارساتها وسلوكياتها وخطابها. وقد كانت هذه الممارسات والسلوكيات جاذبة للرأي العام الشيعي قبل مرحلة السلطة (قبل العام 2003)، لكن جزءاً كبيراً منها بات طارداً وسلبياً في مرحلة ما بعد السلطة (بعد العام 2003). وفي الوقت نفسه، لايزال هذا العنصر مؤثراً جداً في توجيه الرأي العام الشيعي وصناعة موقفه الإيجابي من الحركة الإسلامية، إذ لايزال الجمهور الشيعي يصوت ــ غالباً ــ لمصلحة الكتل الإسلامية الشيعية في الانتخابات.
ونلاحظ هنا، أن حالة التعارض والخصومة بين فصائل الحركة الإسلامية الشيعية أنفسها تساهم في تأليب الرأي العام الشيعي ضد هذه الفصائل. وقد يحافظ خطاب التضاد بين الإسلاميين على الرأي العام الفئوي لكل منهم، لكنه بالنتيجة يعرّضهم لخسارة الشرائح غير المنتمية أو الرمادية، وهي الشرائح الأكبر عدداً.
6- وسائل الإعلام التقليدي:
وتتمثل في المؤسسات الإعلامية المرئية والمسموعة والمقروءة، كالقنوات الفضائية والإذاعات والصحف. وقد كان تأثير هذه الوسائل قبل العام 2003 منحصراً بوسائل إعلام النظام البعثي فقط؛ لأن مشاهدة القنوات الفضائية وأية وسائل إعلامية أخرى كان ممنوعاً، ويعاقب عليه النظام. ولكن تم فتح أبواب كل أنواع وسائل الإعلام التقليدي على مصراعيه بعد سقوط نظام البعث، وبات الرأي العام العراقي تحت تأثيرها بقوة كبيرة، بما فيها الوسائل المعارضة بشدة للعملية السياسية والنظام الجديد.
ومن بين وسائل الإعلام التقليدي، ظلت القنوات الفضائية الأكثر تأثيراً في الرأي العام العراقي، وخاصة الشيعي منه. ويمكن تصنيف هذه الوسائل الى:
أ‌-وسائل إعلام شيعية عامة وإقليمية، وأهمها: قنوات العالم والمنار والميادين، وهي تعمل على مشترك عام يتمثل في تحشيد الرأي العام العراقي باتجاه محور المقاومة، وتقوية الواقع الشيعي العقدي والسياسي والثقافي العراقي. وبالتالي؛ فهي الوسائل غير الفئوية الوحيدة التي تدعم موقف الرأي العام الشيعي العراقي الإيجابي من الحركة الإسلامية.
ب‌-وسائل إعلام شيعية حزبية وفئوية عراقية، وأهمها: قنوات الفرات وآفاق والعهد والاتجاه والمسار والغدير، وهي تعمل غالباً على تحشيد الرأي العام باتجاه الأحزاب التي تمثلها والترويج لمواقفها الايديولوجية، وشد الرأي العام الفئوي، والتعرض بشكل خفي للأحزاب الأخرى.
ت‌-وسائل إعلام سنية عراقية، عامة وفئوية، أهمها: قنوات الشرقية والبغدادية ودجلة والرشيد، وهي تحمل ـــ غالباً ـــ ايديولوجيا الدولة العراقية في ما قبل العام 2003، وخاصة الثقافة البعثية وأدبياتها ومصطلحاتها، ما يجعلها منساقة للعمل على تشويه صورة الحركات الإسلامية الشيعية العراقية، وضرب حضورها في السلطة، وحشد الرأي العام العراقي ضدها، وضرب عناصر القوة في الواقع الشيعي، وخاصة المرجعية والتنظيمات الإسلامية وفصائل المقاومة والعلاقات العراقية الإيرانية، والمبالغة في الترويج لحالات الفساد والفشل في الدولة، والتركيز على إثارة الفوضى وضرب الأمن والسلم الأهلي في المناطق الشيعية في وسط العراق وجنوبه.
ث‌-وسائل إعلام سنية إقليمية، أهمها: قناة الجزيرة القطرية ومجموعة قنوات mbc السعودية، وخاصة العربية والحدث، وهي تلعب الدور نفسه الذي تلعبه وسائل الإعلام السنية العراقية في تأليب الرأي العام العراقي، وخاصة الشيعي، ضد الحركة الإسلامية الشيعية، وضرب عناصر القوة الشيعية العراقية.
ج‌-وسائل الإعلام العالمية، أهمها: قنوات الحرة عراق الأمريكية، وهي تكمّل الدروين اللذين تلعبهما وسائل الإعلام السنية العراقية والإقليمية.
ويمكن القول عموماً؛ أن تأثير وسائل الإعلام السنية العراقية والإقليمية في توجيه الرأي العام الشيعي، أكثر بكثير من تأثير وسائل الإعلام الشيعية العراقية والإقليمية، لأسباب كثيرة، في مقدمتها التفوق التقني والمهني، وعناصر الجذب الصوري والفني، والاستقلالية الفئوية غالباً، في حين لاتوجد وسائل إعلام شيعية عراقية، تتمتع بالتنوع الموضوعي والتطور التقني والمهني، وعناصر الجذب الفني، والإستقلالية الفئوية، بحيث تستطيع التأثير في مساحات أوسع من الجمهور الفئوي. وبالتالي؛ ينعكس حجم المشاهدة والتأثير على تمكّن وسائل الإعلام السنية العراقية والإقليمية من تحقيق أهدافها الخاصة في الرأي العام الشيعي العراقي.
وفي الوقت نفسه؛ فإن طبيعة خطاب الترويج الحزبي والفئوي في سائل الإعلام الشيعية، والذي يحملها أحياناً على ضرب الجماعات والشخصيات الشيعية المنافسة، تخلق رأياً عاماً سلبياً تجاه عموم الإسلاميين الشيعة، لأنها في المحصلة تساهم في ضرب الإسلاميين الشيعة لبعضهم وتسقيطهم، وتكرّس الإعلام السني المعارض بعدم وجود إسلامي شيعي نزيه وناجح. ويعمق هذه الــ (بروباغاندا) أيضاً، بعض الإعلاميين والمثقفين والسياسيين الشيعة، المتطرفين في نقدهم ورفضهم للحركة الإسلامية الشيعية، والذين يظهرون بكثافة على وسائل الإعلام السنية العراقية والإقليمية، أو يكتبون في صحفها ومواقعها.
7- وسائل التواصل والناشطين فيها:
كانت وسائل التواصل الاجتماعي ممنوعة هي الأخرى خلال حكم البعث، حالها حال وسائل الإعلام التقليدي غير التابع للسلطة، بل لم تكن السلطة تسمح باستخدام الإنترنيت والكمبيوتر، فضلاً عن عدم وجود شبكة للهاتف النقال. ولذلك؛ لم يكن لهذا العنصر المهم حضور إطلاقاً في مخاضات تشكيل الرأي العام العراقي في الداخل قبل العام 2003.
ولكن؛ حدث تغير جذري في هذا المجال بعد سقوط النظام البعثي؛ إذ باتت مواقع الإنترنيت ووسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة الفيس بوك وتويتر وتلغرام ووتساب وانستغرام، جزءاً أساسياً من حياة العراقيين، وباتت قدرتها على تحريك الرأي العام العراقي وتوجيهه وتحشيده والتأثير فيه، أكبر بكثير من وسائل الإعلام التقليدي، بسبب سهولة استخدامها ومجانية تكاليفها تقريباً وتحررها الكامل من كل أنواع الرقابة، وقدرة كل فرد على أن يكون فاعلاً فيها بقوة.
ويمكن القول أن الفيس بوك هو الأكثر استخداماً وشعبية وتأثيراً؛ لاعتبارات فنية وتقنية، وفي إطاره ـــ غالباً ــ يتم تشكيل وتحريك ما يعرف بــ “الجيوش الإلكترونية”، والتي بتألف كل منها من أعداد كبيرة من الحسابات والمجموعات والصفحات، وتعمل بشكل مركزي. وفي ظل الانفلات الأخلاقي في هذه الوسائل وغياب الكوابح الذاتية والخارجية والرقابة الاجتماعية والأمنية والقانونية، فقد تحولت الى بؤر للفساد والإفساد والتحريف والإشاعات والكذب والقتل المعنوي، أكثر بشاعة وخطورة من الفساد والفشل اللذين توصف بهما السلطة العراقية، وهو ماينعكس سلباً، وبشدة، على موقف الرأي العام العراقي من التيارات الإسلامية الشيعية العراقية في السلطة.
ولايختلف تصنيف توجهات وانتماءات مواقع الإنترنيت ووسائل التواصل الاجتماعي المؤثرة في الرأي العام العراقي عن تصنيف وسائل الإعلام التقليدي، فهي أما شيعية عامة وإما شيعية فئوية عراقية، أو سنية عراقية وإقليمية أو عالمية. ولعل التأثير الأكثر سلبية لوسائل التواصل على موقف الرأي العام الشيعي من الحركة الإسلامية العراقية، هو حسب الترتيب:
أ‌-تأثير النشاط الإلكتروني الفئوي للفصائل الإسلامية الشيعية
ب‌-تأثير الكتّاب والمدونين والناشطين الشيعة المعارضين للحركة الإسلامية أو لبعض فصائلها وقادتها
ت‌-الجيوش الإلكترونية الممولة من الحكومات الأمريكية والسعودية والإماراتية والإسرائيلية.
ويقدم النشاط الإلكتروني للاتجاهات الثلاثة السابقة، صورة سلبية سوداء قاتمة عن الحركة الإسلامية الشيعية وقياداتها وأعضائها، ولعل أكثرها شراسة هو النشاط الالكتروني الخاص بالتيارات الإسلامية الشيعية أنفسها، والجيوش الالكترونية لبعضها؛ لأنه نشاط فئوي غالباً، ويروج للحزب أو الكتلة التي يتبعها، في مقابل تشويه صورة الأحزاب والشخصيات الإسلامية الشيعية المنافسة، بأساليب ومضامين أكثر قسوة وافتراءً ــ أحياناً ــ مما تنشره وسائل التواصل المحلية أو الإقليمية السنية المعادية. أما الحراك الالكتروني الشيعي الإيجابي فهو ضعيف جداً قياساً بالحراك السلبي.
ومن بين العناصر السبعة المذكورة من عناصر تشكيل الرأي العام الشيعي، يمكن القول أن العنصرين 1و2 هما عنصران داعمان للحركة الإسلامية الشيعية في استقطاب الرأي العام الشيعي، في حين أن المخرجات المشتركة للعناصر الأخرى (3 و4 و5 و6 و7)، تعود بالضرر ـــ غالباً ـــ على الحركة الإسلامية الشيعية وقياداتها وأعضائها وحضورها السياسي والاجتماعي، لأنها تقود الى التشكيك في نزاهة ونجاح ووطنية كل الأحزاب الإسلامية ورموزها وقادتها وأعضائها.
ثنائيات الرأي العام الشيعي العراقي
وهي ثنائيات تمثل الإزدواجيات أو المفارقات الشائعة للرأي العام في كل بقاع العالم، ولاتختص بالرأي العام العراقي، فالرأي العام الظاهر ـــ مثلاً ـــ يكون أحياناً مؤشراً خادعاً، ويخفي وراءه رأياً عاماً كامناً، وهكذا بالنسبة للرأي العام المتغير الذي يضمر رأياً عاماً ثابتاً. وترتبط هذه الثنائيات بظواهر الاجتماع النفسي والاجتماع الديني للشعب، ويمكن من خلالها التعرف على المواقف شبه النهائية للرأي العام، وعلى النحو التالي:
1- الظاهر والكامن:
الرأي العام الظاهر هو الرأي المعلن الفاعل للجمهور، ويتمظهر في الفعاليات العامة، كالتظاهرات والاحتجاجات وما يقال وينشر في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي. وغالباً ما يمثل رأي الأقلية الشعبية الفاعلة أو ما يمكن تسميتهم بأصحاب الصوت العالي الذين يزعمون تمثيل الشعب والرأي العام. أما الرأي العام الكامن فهو رأي مستتر ولايعبر عن نفسه في فعاليات عامة، لأسباب سياسية أو اجتماعية أو أمنية، وهو ما يعرف برأي الأغلبية الصامتة، وهي الأغلبية التي تراقب عادة. ويمتلك جزء من هذه الأغلبية موقفاً ثابتاً، والجزء الثاني ليس له رأي متبلور من الحدث أو القضية، ويفضل المراقبة والانتظار وصولاً الى انتاج الموقف النهائي، أما الجزء الثالث فليس له رأي ولا يفكر بانتاج رأي. بيد أن الأغلبية الصامتة تعبر عن مواقفها الحقيقي ـــ عادة ـــ عندما تزول أسباب صمتها، أو في المنعطفات المصيرية.
وبين الظاهر والكامن، تبرز مشكلة تمثيل الرأي العام وتمثيل الشعب، وهو ما يعبر عنه بعض الزعماء السياسيين أو مقدمي البرامج التلفزيونية أو المتظاهرين، حين يدّعون أنهم هم الشعب وأنهم يتحدثون باسم الرأي العام، بينما يكمن الرأي العام الغالب في مكان آخر، وهو مايتفاجأ به المراقبون في الانتخابات العامة عادة. ففي جميع الدورات الانتخابية الماضية (2003-2020) ظل الإسلاميون الشيعة وحلفاؤهم، يحصدون الأغلبية الساحقة للمقاعد الشيعية في مجلس النواب العراقي، ويمسكون بقرار تشكيل الحكومة، بينما يحصل خصومهم من العلمانيين الشيعة ـــ مثلاً ـــ على ما معدله 10 بالمائة مما يحصل عليه الإسلاميون، رغم أن هؤلاء الخصوم أصحاب صوت عال ويدّعون تمثيل الشعب. وينطبق الأمر نفسه على تيارات إسلامية شيعية تطرح نفسها ممثلة للشعب أيضاً، لكنها تحصل في الانتخابات العامة ـــ عادة ـــ على النسبة نفسها التي تحصل عليها الفصائل الأخرى وربما أقل.
ويبدو أن هذه النتائج ستتكرر مستقبلاً، سواء في انتخابات مجالس المحافظات أو انتخابات مجلس النواب، ليس لأن الحركات الإسلامية تمتلك إمكانات مالية وإعلامية وتنظيمية أكبر، ولكن لأن الرأي العام الشيعي العراقي يميل الى عناصر اجتماعه الديني ـــ غالباً ـــ ويرى أن مشتركاته مع الإسلاميين أكبر بكثير من مشتركاته مع الجماعات والكتل العلمانية وغير الإسلامية. ولذلك؛ ينطلق الرأي العام الشيعي الكامن، معبراً عن نفسه تلقائياً في المنعطفات، ومنها الإنتخابات، حين يختار الإسلاميين، بل أن الجزء الذي لاينتخب فصائل الحركة الإسلامية، ويعلن عن معارضته لها؛ يفضل العزوف عن المشاركة الانتخابات، على انتخاب التيارات العلمانية.
3- المؤقت والثابت:
الرأي العام المؤقت هو الرأي المتغير أو المتحرك أو الناشط في برهة زمنية محددة، تتميز بأحداث ووقائع آنية أو مشاكل طارئة. وغالباً ما يبرز الرأي العام المؤقت ردّ فعلٍ على هذه الأحداث أو الوقائع، قبولاً أو رفضاً، ويتمظهر ـــ عادة ـــ في التظاهرات والحملات الإعلامية في الوسائل التقليدية أو وسائل التواصل، ويتلاشى تدريجياً أو فجأة، مع ارتفاع أسباب تشكيله أو حدوث موجات دعائية مضادة، أي مع انتهاء الحدث أو تغيير معادلات فهمه وتغيير موازين القوة. وبالتالي؛ فهو تعبير عن قيادة العقل الجمعي الآني للجمهور. وتزداد حالات ظهور الرأي العام المؤقت عندما يكون الجمهور عاطفياً، وهو ما يتميز به الشعب العراقي، وكذا في ظل أجواء القمع الشديد أو حرية الرأي المنفلتة عادة، وهما واقعان عاشهما الشعب العراقي، الأول خلال حكم البعث، والثاني بعد العام 2003.
أما الرأي العام الثابت، فهو رأي راسخ ومستقر، استقراراً كاملاً أو نسبياً، ويمثل وعياً عاماً قيمياً، يرتبط بثوابت الجمهور الدينية أو الاجتماعية عادة، ولاتغيّر فيه الأحداث والمشاكل تغييراً كبيراً. وهذا الرأي هو الذي يطفو على السطح في المنعطفات التي يعدها الجمهور مصيرية.
ويمكن تشبيه الرأي العام الظاهر بالرأي العام المؤقت، والرأي العام الكامن بالرأي العام الثابت، من كثير من الوجوه، فإذا كان الرأي العام المؤقت يشير الى معارضة ساخنة ممتدة لأداء فصائل الحركة الإسلامية الشيعية في السلطة بعد العام 2003، حاله حال الرأي العام الظاهر؛ فإن الرأي العام الثابت يصب ـــ عادة ـــ في مصلحة الحركة الإسلامية، بالنظر للمشتركات القيمية الدينية والاجتماعية بين الحركة الإسلامية وعناصر الرأي العام الثابت الشيعي العراقي، حاله حال الرأي العام الشيعي العراقي الكامن.
أهداف محاولات إعادة تشكيل رأي عام شيعي ثابت مضاد
لاتزال محاولات تشكيل رأي عام شيعي مستقر وثابت مضاد للحركة الإسلامية الشيعية، مستمرة وتزداد قوة وخطورة، عبر توسعة الدائرة الزمنية في الرأي العام الشيعي المؤقت، ورفع حدة الرأي العام الظاهر وتوسعة دائرته علنياً، وهو ما يمهد لظهور تدريجي لثلاث حالات ممكنة:
1-خلق اتجاه عام شيعي تراكمي ضد الحركة الإسلامية الشيعية، من خلال إيجاد فاصلة في الوعي الشيعي بين الوعي التاريخي الشعبي الشيعي وأداء الحركة الإسلامية في السلطة.
2-زعزعة الدعائم التي تستند عليها الحركة الإسلامية الشيعية العراقية في رهاناتها على الرأي العام الكامن والثابت، ومنها الفصل بينها وبين ظواهر الاجتماع الديني الشيعي، وفي مقدمها المرجعية الدينية والحوزة وشعائر آل البيت.
3-دمج الرأي العام الشيعي الظاهر والمؤقت في الرأي العام الكردي السلبي والرأي العام السني السلبي، لخلق رأي عام عراقي عددي يرفع شعار فساد الإسلاميين الشيعة الحاكمين وفشلهم وعمالتهم ومليشياويتهم، مقابل استثناء الجماعات الأخرى المشاركة في السلطة، أي الأحزاب والزعامات الكردية والسنية، ونظيراتها الشيعية العلمانية، بمعنى خلق رأي عام عراقي موحد وعابر للطوائف والقوميات ضد الأحزاب الاسلامية الشيعية حصرأ، وليس ضد جميع كتل السلطة.
وقد بلغت هذه المحاولات ذروتها خلال تظاهرات تشرين في العامين 2019 و2020، لتبرز على شكل صراع شامل عنيف، وقصف دعائي منهجي منظم، وحرب نفسية شعواء، اشترك في دعمها وتأجيجها أحزاب وشخصيات ووسائل إعلام سنية وكردية، ودول إقليمية وعالمية. وهو ما يؤكد حقيقة أن أي شعب في العالم، لم يتعرض الى محاولات إعادة تشكيل وعي مضاد للذات، بالشكل الذي ظل شيعة العراق يتعرضون له بعد العام 2003. صحيح أن لهذه المحاولات جذور ضاربة في التاريخ القديم والمعاصر، لكنها تضاعفت نوعياً وكمياً بعد العام 2003. وصحيح أيضاً أن هذه المحاولات تتمظهر في تأليب الشيعة ضد الجماعات الإسلامية الشيعية، بهدف إزاحتها عن السلطة، لكن أهدافها البعيدة أعمق بكثير، وتنطوي على أبعاد عقدية وثقافية واجتماعية وأخلاقية، وفي المقدمة ضرب عناصر القوة الشيعية أو تحييدها كما كان يحدث خلال حكم البعث، وصولاً الى إسقاط تجربة المشاركة الاسلامية الشيعية في العراق، وإعادة تأسيس العراق العلماني والدستور العلماني والدولة المرتهنة للغرب والمجتمع العلماني.
معايير قياس الرأي العام الشيعي
تتمثل أهم معايير قياس الرأي العام في تقارير مؤسسات قياس الرأي العام والدراسات الاستشرافية والاستفتاءات والانتخابات. والملاحظ أن تقارير مؤسسات قياس الرأي العام والدراسات الاستشرافية، غالباً ما تكون موجهة أو غير مستوفية للشروط العلمية والواقعية. وبالتالي؛ هناك نقاش دائم في مصداقيتها، وخاصة التقارير والدراسات التي تصدرها مراكز دولية وإقليمية ومحلية معروفة بتوجهاتها المعارضة للحركة الإسلامية الشيعية، أو مراكز لها ميول فئوية وحزبية. ولذلك تأتي نتائج الانتخابات في العراق متعارضة ـــ غالباً ــ مع تقارير هذه المراكز ودراساتها.
أما الاستفتاء العام والانتخابات، في الأجواء الحرة، فهما الوسيلتان الرسميتان الأقرب الى حقائق الرأي العام واتجاهاته، حتى وإن شابتهما المشاكل. وقد ظلت نتائج الانتخابات بعد العام 2003، تمثل موقف الرأي العام الشيعي الداعم للحركة الإسلامية الشيعية. ومنطلق هذا الدعم هو ما تفرزه عناصر تشكيل الرأي العام الكامن والرأي العام الثابت، كما ذكرنا سابقاً.
ربما تكون بعض الأحداث والمشاكل سبباً في خذلان متبادل بين الرأي العام الشيعي والحركة الاسلامية الشيعية، لكنه لايتحول الى اتجاه عام يمثل قطيعة نمطية من الرأي العام الشيعي تجاه الحركة الإسلامية الشيعية، لأن الاتجاه العام الغالب لدى الجمهور الشيعي تجاه الحركة الاسلامية الشيعية هو اتجاه ايجابي؛ إذ لايوجد لديه موقف سلبي نمطي مسبق حيالها، على العكس من موقف الرأي العام الشيعي من الأحزاب العلمانية، كالليبرالية والقومية والشيوعية. أما ظهور رأي عام شيعي جزئي داعم للتيار العلماني، فهو ظهور مؤقت وانفعالي، ومبني على حدث معين أو مشكلة، وحين ينتهي الحدث وترتفع المشكلة، يعود هذا الرأي العام الى اتجاهه الأصلي.
والاعتقاد السائد هو أن التغيير العمودي أو الجذري في موقف الرأي العام الشيعي من الحركة الإسلامية الشيعية صعب جداً، لكنه ليس مستحيلاً، وأسباب صعوبة ذلك تكمن في مجموعة متعاضدة من الأسباب، أهمها:
1-إن الحركة الإسلامية الشيعية جزءٌ من النسيج الاجتماعي الشيعي، ومكونٌ أساس من مكونات الاجتماع الديني الشيعي، وأحد عناصر قوته وحمايته، أي أنها حركة دينية اجتماعية متداخلة مع المجتمع الشيعي العراقي ومتجذره فيه، وليست مجرد حركة سياسية أو حزب هدفه الوصول الى السلطة.
2-وجود المرجعية الدينية على رأس الحالة الدينية والنظام الاجتماعي الديني الشيعي، وما تمثله من قيادة دينية اجتماعية لكل الشيعة، وثقل شعبي هائل، يشكل ـــ بحد ذاته ـــ دعماً تلقائياً غير مقصود للحركة الإسلامية الشيعية، لأن هذه الحركة ـــ كما ذكرنا ـــ جزءاً لايتجزء من الحالة الدينية والنظام الديني الشيعي، والأقرب عقدياً وفكرياً وثقافياً واجتماعياً للمرجعية الدينية.
3-الموقف الإيراني الداعم للحركة الإسلامية الشيعية، وهو موقف تعدّه جمهورية الفقيه مصيرياً ويرتبط بحالة الصعود الشيعي الإقليمي المشترك، وبالأمن الشيعي العام، وليس أمن الجمهورية الإسلامية وحسب.
4-حذر الرأي العام الشيعي العراقي والإقليمي من عودة الماضي الطائفي، وخاصة أن الوعي الشيعي التاريخي التراكمي الذي يصنع هذا الحذر، ليس وعياً سطحياً طارئاً. مايعني أن هاجس عودة الماضي الطائفي ليس هاجساً مصطنعاً أو وهمياً أو عاطفياً، بل يستند الى معطيات عميقة وواقعية.
5-فاعلية عناصر القوة الشيعية الداعمة لايديولوجيا الحركة الإسلامية الشيعية، والتي ذكرناها في فقرة سابقة.
الخاتمة
رغم كل العناصر الداعمة لموقف الرأي العام الشيعي الإيجابي الثابت من الحركة الإسلامية الشيعية، إلّا أن من الخطأ الفادح أن نتصور أن العناصر المذكورة ستبقى فاعلة الى ما لانهاية، فيما لو استمر أداء فصائل الحركة الأسلامية بمناسيبه السلبية الحالية، وهو مقتضى الموضوعية في فهم حقائق التغيير والاستبدال.
وأرى أن فصائل الحركة الإسلامية الشيعية العراقية التي مارست السلطة بعد العام 2003، تعاني من مشكلة خطيرة في مجال وعيها الجامد لثنائيات الرأي العام الشيعي العراقي، إذ لاتزال تراهن على عناصر الرأي العام الكامن والثابت، في اندفاع الجمهور الشيعي نحو دعمها في المنعطفات المصيرية، كالانتخابات البرلمانية، وهو رهان خاطئ وكارثي على المستوى البعيد؛ لأن مبدأ التغيير وسنة الاستبدال من شأنهما ضرب الدعائم التي تستند عليها الحركة الإسلامية الشيعية العراقية في رهاناتها على الرأي العام الكامن والثابت. أما الرهان الذي من شأنه تكريس الموقف الإيجابي للرأي العام الثابت من الحركة الإسلامية، فهو رهان الإنتاجية والأداء والنجاح والنزاهة في إدارة الدولة والسلطة، وإعادة بناء البلد وتقديم الخدمات للشعب.
=
مصادر البحث
1-الكتب:
-جوزيف اس. ناي، “القوة الناعمة: وسيلة النجاح في السياسة الدولية”، ترجمة: محمد توفيق البجيرمي، ط2، مكتبة العبيكان، الرياض، 2012.
-د. عبد الحميد الصائح، “دور الإعلام في تشكيل الرأي العام”، الدار العربية للعلوم، بيروت، 2018.
-د. عبد الكريم علي الدبيسي، “الرأي العام: عوامل تكوينه وطرق قياسه”، ط2، دار المسيرة، عمان، 2016.
-علي المؤمن، “سنوات الجمر: مسيرة الحركة الإسلامية في العراق”، ط5، مركز دراسات المشرق العربي، بيروت، 2017.
-علي المؤمن، “جدليات الدعوة: حزب الدعوة الإسلامية وإشكاليات الاجتماع الديني والسياسي الشيعي”، مركز دراسات المشرق العربي، بيروت، 2017.
-علي المؤمن، “النظام الاجتماعي الديني الشيعي”، مركز دراسات المشرق العربي، بيروت، 2020.
-علي المؤمن، “صدمة التاريخ: العراق من حكم السلطة الى حكم المعارضة”، ط2، مركز دراسات المشرق العربي، بيروت، 2017.
-غوستاف لوبون، “سيكولوجيا الجماهير”، ترجمة: هاشم صالح، ط 7، دار الساقي، لندن، 2016.
-د. محيي الدين عبد الحليم، “الرأي العام: مفهومه وأنواعه”، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 2009.
-د. مختار حمزة، ” أسس علم النفس الاجتماعي”، دار البيان، جدة، 1982.
-د. منقذ داغر، “العراق من الاحتلال الى الاعتلال: الراي العام العراقي”، دار الذاكرة، بغداد، 2020.
-نبيهة صالح السامرائي، “علم النفس الإعلامي”، دار المناهج، عمان، 2007.
-وليم ووالاس لامبرت، “علم النفس الاجتماعي”، ترجمة: د. سلوى الملا، دار الشروق، القاهرة، 2008.
2-دراسات ومقالات:
-د. إقبال المؤمن، “تأثير الإعلام والإشاعة في تشكيل الرأي العام العراقي”،
https://www.almothaqaf.com/qadayaama/qadayama-09/20909-
-فريق العمل، “كیف یجري التلاعب بالشعوب والأنظمة؟”،
https://www.sasapost.com/changing-public-opinion
-د. محمد أبو النواعير، “الرأي العام بين التضليل والتغيير”،
https://democraticac.de/?p=58498
-محمد ارمين كربيت، “الرأي العام والنظام السياسي في العراق”،
https://www.ssrcaw.org/ar/show.art.asp?t=2&aid=622480