الخميس - 28 مارس 2024

قنبلة المياه الموقوتة..متى تتفجّر بين بغداد وأنقرة؟!

منذ سنتين
الخميس - 28 مارس 2024


عادل الجبوري ||

لم يقتصر الاستغلال التركي على ملف المياه فقط، إنما امتد إلى الانتهاكات المتكررة للأراضي العراقية، والتي نفذها الجيش التركي.
ليس الآن، إنما قبل نحو 4 عقود، لاحت بوادر الصراعات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط حول المياه، ودقت جهات وأوساط سياسية وغير سياسية في أكثر من مكان نواقيس الخطر. وأكثر من ذلك، أكد البعض أن سعر برميل الماء سيصبح في يوم من الأيام أغلى من سعر برميل النفط!
بالفعل، مع مرور الوقت، أخذت الصورة الكلية لأزمة المياه تتبلور وتتكامل وتتضح خطوطها وألوانها وملامحها ومعالمها، لتؤشر إلى مخاطر وتحديات حقيقية، سواء بالنسبة إلى الدول التي تمتلك المياه أو تلك التي لا تمتلكها بالقدر الكافي.
وما يمكن ملاحظته بيسر وسهولة هو أنَّ هناك بؤرتين رئيسيتين للصراع الإقليمي حول المياه في المنطقة؛ الأولى بين مصر والسودان من جهة وإثيوبيا من جهة أخرى، حيث نهر النيل الذي يعد أطول الأنهار في العالم، والبؤرة الثانية بين العراق من جهة وتركيا من جهة أخرى، حيث نهرا دجلة والفرات، اللذان ينبعان من بحيرة وان في جنوب شرق تركيا، ليدخل الأول مباشرة إلى العراق، ويمر الآخر بسوريا، ثم يلتقيان في شط العرب عند بلدة كرمة علي شمال مدينة البصرة في أقصى جنوب البلاد.
ورغم أن الصراع على مياه نهر النيل بين دول المنبع والمصب شائكة ومعقدة وصعبة الحل، وحتى الحلحلة، فإنَّ ظروفاً وعوامل عديدة مختلفة جعلت الصراع على مياه دجلة والفرات بين العراق وتركيا تبدو أكثر تشابكاً وتعقيداً وتأزماً، لتكون أشبه بالقنبلة الموقوتة القابلة للتفجر في أي وقت، إذا ما استمرت وتواصلت وتفاقمت، ومعها المشاكل والأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية الأخرى بكل تراكماتها التاريخية بين الطرفين.
وفي العراق، كلَّما قلت الأمطار وانحسرت، تزايدت المخاوف والهواجس من تفاقم أزمة المياه. ولعلَّ موسم الشتاء الأخير أقرب مثال على ذلك، فمع قلّة الأمطار التي تساقطت على معظم مدن البلاد، وتراجع كميات المياه في مختلف بحيرات ومنخفضات التخزين، ناهيك بتتابع العواصف الترابية الشديدة، راحت الجهات العراقية المعنية تطلق صيحات التحذير من المخاطر المحدقة بالزراعة ومجالات الاستخدام البشري الأخرى للمياه، وتشدد على ضرورة الضغط على شركاء المياه الآخرين -وتحديداً تركيا- من أجل ثنيها عن عدم تبني سياسات مائية تلحق المزيد من الضرر بالعراق.
وفي واقع الأمر، إنَّ إطلاق صيحات التحذير الأخيرة ودق نواقيس الخطر ليس بالأمر الجديد، بيد أنها تبدو أكثر قرباً من الأزمة، ارتباطاً باتساعها وتفاقمها، ليس في حدود العراق الجغرافية فحسب، إنَّما على نطاق أوسع من ذلك بكثير أيضاً.
قبل أعوام قلائل، أطلق برنامج الأمم المتحدة حول التنمية تحذيرات جدية من خطورة مشكلة المياه في الشرق الأوسط، وذلك خلال اجتماعات الأسبوع العالمي للمياه الذي يُعقد سنوياً في العاصمة السويدية استوكهولم. ومما قاله حينذاك مدير البرنامج في العراق “باولو ليمبو”: “إنّ المصدر الاستراتيجي الأكثر أهمية في الشرق الأوسط والدول المجاورة، ليس النفط والغاز، بل المياه. ومع تزايد عدد السكان، والشح المتزايد في المياه، وعدم توقع وجود احتياطي في المياه، وتدهور نوعية المياه بسبب التغير المناخي، فإنَّ ملايين الأشخاص شعروا بارتفاع حرارة الأرض”.
من الناحية الواقعية، هناك مكامن خلل وضعف واضحة منذ وقت غير قصير في سياسات العراق المائية. وقد اتسع نطاق هذا الخلل والضعف بدرجة أكبر، وظهرت آثاره السلبية بصورة أوضح خلال العقدين الأخيرين، كجزء من الانعكاسات والتداعيات الكارثية للاحتلال الأميركي للبلاد بعد إطاحة النظام السابق في ربيع العام 2003، وطبيعة الصراع والتنافس السياسي الداخلي، وضعف المنظومة الحكومية وهشاشتها، وتفشي مظاهر العنف والإرهاب، والتراجع الحاد في مختلف القطاعات الزراعية والصناعية والاقتصادية، ناهيك بغياب ثقافة الاستخدام الأمثل للمياه على الصعيدين الفردي والمجتمعي العام.
ويذهب بعض الخبراء والمختصين في شؤون المياه أبعد من ذلك، إذ يقولون “إنَّ العراق لم ينجح منذ بدايات النصف الثاني من القرن الماضي في التوصل إلى حلول نهائية لأزمة المياه المزمنة، التي باتت تمثل ورقة ضغط بيد دول المنبع، تركيا وإيران، لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية، من خلال التحكم بشكل مطلق في تدفقات مياه نهري دجلة والفرات”.
وبحسب توقعات “مؤشر الإجهاد المائي”، سيكون العراق بحلول العام 2040 أرضاً بلا أنهار، ولن يصل نهرا دجلة والفرات إلى مصبهما النهائي الحالي. ليس هذا فحسب، إذ يشير مؤشر الإجهاد المائي إلى أن ملامح الجفاف الشديد في العام 2025، أي بعد 3 أعوام، ستكون واضحة جداً في عموم البلاد مع جفاف شبه كلي لنهر الفرات باتجاه الجنوب، وتحول نهر دجلة إلى مجرى مائي محدود الموارد.
مثل تلك التوقعات القاتمة المتشائمة، وإن بدا أن هناك مبالغة فيها، إلا أنَّ مصاديقها الواقعية باتت ملموسة ومشخّصة، ليس لأصحاب الاختصاص والمهتمين فحسب، بل ولعموم الناس أيضاً، ولا سيما أصحاب الأراضي الزراعية التي تحولت مساحات شاسعة منها إلى أراضٍ قاحلة أو في أفضل الأحوال إلى مناطق سكينة عشوائية.
وبما أنَّ أزمة المياه تهدد الجميع بلا استثناء، وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة، فمن الطبيعي جداً أن تسارع أيّ دولة إلى استدراكها، من خلال وضع الخطط والمشاريع الاستراتيجية التي تكفل تأمين أكبر قدر من المياه عبر بناء السدود والخزانات، والابتعاد عن سلوكيات الهدر والتبذير المائي غير المبرر، والاهتمام بالقطاع الزراعي بمختلف تفاصيله وجزئياته.
ولعل هذا ما فعلته تركيا على مدى أعوام طويلة، فمشروع جنوب شرق الأناضول الاستراتيجي، الذي يعرف بمشروع “GAP” اختصاراً، يعكس طبيعة سياسات أنقرة المائية وحساباتها الاستراتيجية البعيدة المدى، ليس من أجل ضمان جانب من أمنها الزراعي والمائي فحسب، إنما لتحقيق التقدم والازدهار الاقتصادي أيضاً.
وقد بدأ العمل بالمشروع في العام 1997، وهو يتضمن إنشاء 22 سداً، 8 منها على منابع نهر دجلة، و14 أخرى على منابع نهر الفرات، وأبرزها سد اليسو الَّذي اكتمل العمل به وتم افتتاحه في مطلع شهر حزيران/يونيو 2018، والذي يتمتع بقدرة تخزينية مائية كبيرة جدًا، بما يساهم في زراعة مساحات شاسعة، وبالتالي توفير الآلاف من فرص العمل المختلفة، وتطوير منظومات الصحة والتعليم، فضلاً عن تطوير البنى التحتية، من طرق وجسور ومساكن، للكثير من المدن والمناطق القريبة، ليحقق المزيد من الانتعاش والازدهار للاقتصاد التركي.
لكن كل ذلك على حساب العراق في الدرجة الأساس، فأزمة المياه في العراق والمخاطر المحدقة بملايين المواطنين العراقيين تعود إلى غياب التخطيط والوعي وحسن التصرف من قبل الجهات الحكومية المعنية، ومن قبل الأفراد أيضاً، إلا أنّ السبب الرئيسي في ذلك يكمن في استغلال أنقرة جملة عوامل وفرضها سياسة الأمر الواقع.
ومن بين تلك العوامل، وجود منابع لنهري دجلة والفرات في أراضيها، وعدم وجود آليات قانونية ملزمة تضمن تطبيق الاتفاقيات والمعاهدات ومذكرات التفاهم المبرمة بين الدول المتشاطئة على النهرين، والتي تحدد آليات الاستفادة منهما بصورة عادلة، ولا تسمح لأي طرف بالتعدي على حقوق الأطراف الأخرى وحصصها، كما هو معمول به في أماكن أخرى من العالم، وفي إطار القوانين والمواثيق الدولية.
وثمة عامل آخر يتمثّل بأنَّ الحكومات التركية المتعاقبة وجدت في انشغال نظام الحكم السابق في بغداد، أي قبل العام 2003، بالحروب المتلاحقة وتداعياتها الكارثية، ومن ثم الظروف والأوضاع السياسية والأمنية الاستثنائية التي واجهها العراق -وما زال يواجهها- بعد سقوط ذلك النظام، فرصة ذهبية لتمرير مخططاتها ومشاريعها المختلفة وتنفيذها، وهي متيقنة من أن أي اعتراضات عراقية لن تتجاوز حدود الكلام والشكاوى والتظلم والتوسل والرجاء!
ولم يقتصر الاستغلال التركي على ملف المياه فقط، إنما امتد إلى الانتهاكات المتكررة للأراضي العراقية، والتي نفذها الجيش التركي بحجة ملاحقة حزب العمال الكردستاني التركي المعارض (pkk)، الذي تمركز منذ أكثر من 3 عقود في سلسلة جبال قنديل الحدودية، ومن ثم راح يتوسع عبر فتح مقرات ومكاتب في مدن مختلفة من إقليم كردستان في شمال العراق، مستغلاً الظروف والأوضاع الاستثنائية، وخصوصاً في الإقليم، حيث التناحر والتنافس السياسي وغير السياسي المتواصل بين الفرقاء الكرد، وتعدد ولاءاتهم وأجنداتهم. ولعل العمليات العسكرية التركية الأخيرة -جواً وبراً- تعكس حقيقة حسابات أنقرة وسياساتها، وتعكس حقيقة الواقع الذي تتحرك وتترجم فيه تلك الحسابات والسياسات.
والأنكى من ذلك أنَّ أنقرة غالباً ما كانت تجد نفسها غير ملزمة بتعهداتها حيال العراق، بقدر حرصها على مصالحها الخاصة؛ ففي الواقع، هناك اتفاقيات ومذكرات تفاهم بين بغداد وأنقرة تنظّم وتحدد آليات الاستفادة من مياه نهري دجلة والفرات، مثل البرتوكول الموقع في العام 1946، وكذلك برتوكول العام 1978، ومذكرة التفاهم المبرمة في العام 2017، إلا أنَّ الأخيرة لم تلتزم بأيٍّ منها، وتتذرع بأنَّ بغداد التي تطالب بالمزيد من المياه، لا تحسن استخدام النسب المتدفقة إليها بالشكل الصحيح، لتنتهي في البحر وتختلط بمياهه المالحة!
ولا شكّ في أنّ من الخطأ النظر إلى سياسات تركيا المائية وتأثيراتها وانعكاساتها السلبية على العراق بمعزل عن مجمل سياساتها وتوجهاتها الإقليمية، وأيضاً بمعزل عن ملفاتها السياسية والأمنية والاقتصادية مع العراق، فتركيا تسعى إلى التوسع والهيمنة، وإعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية، والقفز على كل الاتفاقيات التي أبرمتها مرغمة قبل 100 عام، بما يعيد إليها الموصل وكركوك، ويتيح لها أن تصول وتجول، ليس في أجزاء من إقليم كردستان في الشمال فقط، إنما خارجه أيضاً، وما وجود عشرات القواعد العسكرية والمقرات الاستخباراتية، والمراكز والمؤسسات الأكاديمية والثقافية والتجارية العلنية والسرية، إلا دلائل دامغة ومؤشرات واضحة على ذلك، وهي تلتقي وتتوافق في الكثير من مصالحها وحساباتها مع “إسرائيل”، ولا تتحرج وتتردد في التصريح بهذا الأمر.
وكان آخر ما جاء بهذا الخصوص على لسان وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو خلال لقائه مجموعة من الصحافيين الإسرائيليين الَّذين زاروا تركيا مؤخراً، بدعوة خاصة من مكتب الرئيس رجب طيب إردوغان، إذ قال إنَّ بلاده تريد “تطوير إمكانيات التعاون مع إسرائيل في مجالات الطاقة والتجارة والاستثمار والعلوم والتكنولوجيا والزراعة والأمن الغذائي، وهناك حماسة واضحة للمضيّ قدماً في خط أنابيب الغاز الطبيعي المحتمل، إذا تمّ العثور على الشروط الاقتصادية الصحيحة”.
ولعلَّ التدقيق في مجمل التوجّهات يكشف وجود نقاط التقاء وتوافق تركي إسرائيلي بشأن مختلف الملفات المتعلقة بالعراق، وقد يكون ملف المياه واحداً منها، رغم أن “إسرائيل” لا تبدو معنية به بصورة مباشرة، لكنَّ تشابك الملفات والتخادم السياسي والأمني والاقتصادي، وتداخل مساحات النفوذ والطموح، يجعلها معنية بشكل أو بآخر بما تقوم به أنقرة، والعكس صحيح.
ربما تبدو الحلول والمعالجات والمخارج الواقعية والعملية لملف المياه بين بغداد وأنقرة غائبة أو غير متاحة، سواء في المرحلة الراهنة أو على صعيد المستقبل المنظور، ما يعني استمرار سياسات التوسّع التركية وتعزيزها من جانب، وتفاقم مشاكل العراق وتزايد المخاطر المحدقة به من جانب آخر. وبالتالي، لا سبيل لنزع فتيل قنبلة المياه الموقوتة، والقنابل الموقوتة الأخرى كثيرة في الطريق
ـــــــــــ