الجمعة - 29 مارس 2024

السيدة نرجس أنموذج الصبر والصمود

منذ سنتين
الجمعة - 29 مارس 2024


نور الدراجي ||

ليس من السهل أبداَ على امرأة أن تعيش وسط أسرة ترفع راية المعارضة جيلاً بعد جيل للحكومات الجائرة، وخصوصا اذا كانت المعارضة تتصّدى لإمبراطورية جبارة تحكم ثلاث إرباع الكرة الأرضيّة، فهي بذلك تعيش الخوف والرعب، وكيف كانت تشاهد بعينها جلاوزة السلطان يقتحمون الدار بوحشية، ليعتقلوا زوجها أو ابنها، وخاصة أن هذه الأسرة وكبارها وسادتها قد تعرضوا على مرّ التاريخ ولما يقارب القرنين من الزمن لعمليات التصفية الجسدية، والاغتيال بالسم والسجن في ظلم المطامير، ولصنوف من العذاب والحرمان، فإن من الطبيعي أن يكون الجو المحيط بتلك الأسرة مرعبا، والظروف المحيطة بها أشد وأقسى.
خضعت دار الإمام العسكري (عليه السلام) للرقابة المشددة، بل تطور الأمر إلى اعتقال السيدة نرجس ونقلها قسرا إلى احدى البيوت ولمدة طويلة، خضعت لرقابة دائمة، ولربما على مدار الساعة من قبل نساء قيضن خصيصا للاضطلاع بهذه المهمة، اعتقلت السيدة واودعت غياهب السجن لفترات طويلة، تألقت السيدة نرجس (عليها السلام) في بٌعد هو في غاية الأهمية والخطورة، بُعد يفتقده اكثر الناس ويعجز عن تحمل وطأته في بعض درجاته حتى عمالقة الرجال، إنه بُعد التحلي بالصمت والكتمان، والمحافظة على الاسرار ذات الخطورة الكبرى، وما اكثر الحركات التي نسفت، والثورات التي اجهضت على مر التاريخ، نتيجة عدم التحكم الكبير في ميل الإنسان بطبعه للثرثرة، ونتيجة الإذاعة، فها هو الإنسان الثائر يطمئن لصديقه، وها هو المفكر الحركي يثرثر لزوجته، وهكذا تتواصل الحلقات لتبلغ مسامع السلطات، ويكفي لكي نعرف مدى خطورة ذلك، ومدى الأثر التخريبي الذي الحقته الإذاعة بمسيرة أهل البيت (عليه السلام) ففي رواية الإمام الصادق (عليه السلام) : (…فو الله لقد قرب هذا الأمر فأذعتموه، فأخره الله) (بحار الأنوار ج ٥٢ ص١١٠) ويقول الإمام الباقر (عليه السلام) : ( ولو أن العلماء – أي الأئمة عليهم السلام – وجدوا من يحدثونه ويكتم سرهم لحدثوا ولبثوا الحكمة، ولكن قد ابتلاكم الله عز وجل بالإذاعة، وانتم قوم تحبوننا بقلوبكم، ويخالف ذلك فعلكم…مالكم لا تملكون انفسكم) (بحار الأنوار ج٥٢ ص ٣٨٩) وسر الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) هو من أعظم الأسرار واخطرها على الإطلاق، لذلك تتجلى عظمة السيدة نرجس (عليها السلام) ومقدرتها على تحمل هذا السر العظيم.
عندما لبى إمامنا العسكري (صلوات الله عليه) نداء ربه، وارتحل إلى جوار آبائه الطاهرين مسموما شهيدا، بلغت الضغوط ذروتها، فقد بعث السلطان إلى دار الإمام من يفتشها ويفتش حجرها، وختم على جميع ما فيها، بل لقد كبست دار الإمام الخيل، واشتغلوا بالنهب والسلب، وقد كانت الجلاوزة من الوحشية والدناءة، بحيث يصرح أحدهم قائلا ( دخلت إلى دار العسكري بعد وفاته، فكسرت بابها، وأخذت منها..) لقد كان البحث جادا على قدم وساق عن الوليد المنتظر، وتعرض الشيعة بشكل عام إلى محنة كبيرة، وكثر التفتيش في المنازل والدور، لقد كانت عملية استنفار شاملة، وحالة طوارئ قصوى في طلب الإمام المنتظر( أرواحنا لتراب مقدمه الفداء) يقول الشيخ المفيد ( قدس سره) : (…وجرى على مخلفي أبي محمد – أي الإمام العسكري عليه السلام – من أسرته ومن يلوذ به، بسبب ذلك كل عظيمة من اعتقال وحبس وتهديد وتصغير واستخفاف وذل…) ( الإرشاد ص ٣٢٥) وفي مثل هذه الظروف برز دور آخر للسيدة الجليلة نرجس (صلوات الله عليها) دور ببالغ الحكمة والشجاعة، فعندما رأت السلطات جادة في البحث عن الإمام المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) وهو ذا ذاك في الخامسة من العمر مستورا عن الأعين، مخفيا عن السلطات أمره وأمر ولادته، وعندما رأت الضغط يطال بيوت الشيعة، أعلنت السيدة انها حامل، فاعتقلت على الفور، لقد استهدفت تضليل السلطات وصرف الأنظار عن ذلك الوليد، وبذلك اوهمت للسلطة أنه لم يولد بعد وإنها هي حامل به !! وبذلك حصل تخفيف الضغط على الشيعة، وتوفير حماية نسبية للإمام، وهي بذلك سخت وجادت بنفسها، و يا له من شرف، و ما أسماها من أمنية، إن يكون الإنسان جِنة واقية لصاحب الزمان ( عجل الله فرجه الشريف).
وقد حرمت السيدة نرجس من رؤية ولدها لفترات طويلة وهي في سجون الظالمين وتحت المراقبة الشديدة في عهد المعتمد العباسي، وبقيت السيدة نرجس تحت الإقامة الإجبارية وهم ينتظرون أن تضع جنينها، إلى أن حدثت اضطرابات خطيرة في الدولة وفتن متعددة شغلت السلطات عنها، فنسوا امرها، فاستطاعت الخلاص منهم ، وتقول بعض المصادر إنها التجأت إلى دار أحد الشيعة الثقات وهو (الحسن بن جعفر النوبختي ).
وبعد موت المعتمد ومجيء المعتضد سنة 279 – والذي كان متشددا على أهل البيت وشيعتهم كالمتوكل – علم بوجود السيدة نرجس في دار الحسن بن جعفر النوبختي، فألقى القبض عليها مرة أخرى، وحملها إلى قصره وحبست هناك حتى وافتها المنية في أيام المقتدر العباسي.
وهكذا عاشت السيدة نرجس المحن الشديدة، وتحمّلت الحبس في بيوت الظالمين، وقاست ألوان العذاب وهي صابرة في سبيل حماية ولدها من بطش العباسيين، ولم تتمكن ممارساتهم الوحشية، وطول حبسهم لها من حملها على الاعتراف بمكانه، او حتى بوجوده، ولذا ورد في زيارتها :
(أَشْهَدُ أَنَّكِ أحْسَنْتِ الكَفالَةَ وَأَدَّيْتِ الاَمانَةَ وَاجْتَهَدْتِ فِي مَرْضاتِ الله وَصَبَرْتِ فِي ذاتِ الله وَحَفِظْتِ سِرَّ الله وَحَمَلْتِ وَلِيَّ الله وَبالَغْتِ فِي حِفْظِ حُجَّةِ الله وَرَغِبْتِ فِي وُصْلَةِ أَبْناءِ رَسُولِ الله عارِفَةً بِحَقِّهِمْ مُؤْمِنَةً بِصِدْقِهِمْ مُعْتَرِفَةً بِمَنْزِلَتِهِمْ مُسْتَبْصِرَةً بِأَمْرِهِمْ مُشْفِقَةً عَلَيْهِمْ مُؤْثِرَةً هَواهُمْ…).
ــــــــ