الخميس - 28 مارس 2024
منذ سنتين
الخميس - 28 مارس 2024


محمد مكي آل عيسى ||

نَعرِفُها في ملابسنا فنقول بطانة المعطف أو بطانة الفستان ، ويذكر الطبيب بطانة الرحم وبطانة المعدة والأمعاء وبطانة القرنيّة في العين ونسمعها في حِرَفٍ يدوية عديدة ، بطانة السيارة وبطانة الحذاء وغيرها.
وموضوعنا بعيد عن كل ما ذكرناه فمقصدنا من البطانة هي ما ورد في النصِّ القرآني { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } وللآيات تتمة تبين المزيد من حال بطانة السوء هذه.
فبطانة الرَّجُلِ هو ما يتخذه الرَّجُل ُ من أولياء وخواص ، وقيل هم أهله وأقرباؤه ، وبطانة الحاكم هم وزراؤه وجلساؤه وندماؤه وبطانة القائد هم مستشاروه ومعاونوه.
والآية الكريمة تأمر المؤمنين بأن لا يتخذوا لأنفسهم بطانة كيفما اتفق ، أن لا يتخذوا بطانتهم ممّن لا يؤمن برسالة محمد (ص) ويتبعها حقاً.
فبطانة السوء لن تدّخر جهداً ولن تقصّر في تقديم الشرّ والفساد للمؤمنين ، بطانة السوء لا تحب الخير للمؤمنين بل هي تودُّ وتريد لهم المشقّة و الهلاك ، ويظهر ذلك من أفواههم وأقوالهم وما يصدر منهم وما تخفيه قلوبهم من العداوة والغيظ على المؤمنين أكبر وأعظم.
والسؤال هل يقوم عاقل بتقريب عدوّه منه حتى يصل الأمر لأن يجعله له مستشاراً ووزيراً يعتمد عليه ؟! وأي جنون وغباء وحمق هذا ؟!
أليس ذلك من البديهيات الّتي لا تخفى على البسطاء ؟! لماذا ينبّه الله تعالى على هذا الأمر وينهى المؤمنين ويستطرد بآيات أخر؟!
إن البيان الإلهي ليس عبثياً لا غرض له ، وإلّا فسيكون لغواً وحاشاه تعالى من ذلك.
فلابد من أن هناك حاجة كبيرة لهذا التنبيه ، قد يكون المؤمن في غفلة فيفعل ذلك ، قد يأخذ الأمر ببساطة ولا يتوقع الأذى ممن يقرّبه ويدنيه من نفسه ، فالمؤمن يعمل بحسن الظن بل قد يتودد لأعداء الله لنسب أو لقرابة أو لمصلحة مادّية فيقرّبه فيكون كالّذي يربّي في داره عقرباً وهو غافل عن أن هذا العقرب سيكون سبباً في هلاكه وهو يقرّبه ويوده.
السذاجة ، انعدام البصيرة ، قلة الوعي ، المصلحة الماديّة وهوى النفس كلّها تدفع بالإنسان لأن يمكّن عدوّه من نفسه وهو غافل نائم لم ينم عنه.
وهذا ما وقع فيه اليوم عدد من قادتنا السياسيين الّذين حاولوا اتخاذ الإسلام منهجاً لعملهم ؛ ربما لا يتمكّن العدو من نفس هذا القائد أو قد يكون التصدي لنفس القائد صعب على الأعداء أو تكون تكاليف التخلّص منه باهظة الثمن فيتوجه العدو نحو البطانة الّتي تعزل القائد عن الواقع ، يتوجّه العدو مستخدماً مستشاري السوء ووزراء الشر ليحيط القائد بمجموعة غارّة ممن يوجهون القيادة نحو الهلاك نحو الانحراف والقائد في غفلة يظن أنه يعمل بالمشورة وبتلاقح العقول والواقع أنه يطيع عدوّه بما يأمره به ، يظن أنه يجاهد في سبيل مبادئه وعقيدته والواقع أنه يستعرض الجهاد ويتكلّم بالشهادة فقط فلم يعد مجاهداً حقاً وليس هناك من يفكّر بالتخلص منه لأنه لم يعد خطراً فقد أصبح مطيعاً من خلال بطانته الّتي ترشده وتسير به بما يخدم مصلحة عدوّه فهو يحلم بالشهادة ولا ينالها.
أن الأعداء لن يتركوا هذا القائد أو ذاك ، وأنهم يبذلون كل جهدهم لزرع عميل لهم تحت جناح فلان أو فلان من القادة ليملوا عليه ما يريدون وأحياناً يكتفون بأن يقرّبوا منه عبدة الهوى وأصحاب الأطماع ليتكفّل هؤلاء من خلال طمعهم بتحييد القائد أو حرفه عن الصراط فيتحقق لهم ما يريدون.
أمّا ذلك القائد اللبيب الواعي الّذي بفطانته وحسه الإسلامي الحق يستشعر أدوات الضلال ويكتشف عملاء العدو ويردعهم عن التقرّب له فهو الّذي يكون بمنأى عن تأثير الأعداء على مسيرته ويكون هو العصيّ عليهم وهو الّذي يفكرون بكل جديّة بتصفيته جسدياً متحمّلين جميع التبعات الثقيلة والآثار باهظة الثمن بسبب ذلك ، وهو الذي يكون مشروعاً جهاديّاً واستشهاديّاً فعلاً
كما أن بطانة السوء ليست سبباً لانحراف القائد وعزله عن الواقع فحسب بل هي سبب لتوجيه سخط الرعيّة نحوه بما يأتون به من أفعال يمكّنُهم منها قربُهم منه ، فهذه المكانة والنفوذ التي لديهم تجعلهم يعيثون في الأرض فساداً فيستجلبون حنق الأتباع وغيظهم فيقطعون بذلك على القائد علاقته باتباعه ومريديه.
يقول علي بن أبي طالب صلوات الله عليه:
“ثم إن للوالي خاصة ً وبطانة ً فيهم استئثار وتطاول، وقلة إنصاف في معاملة، فاحسم مادة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال”
ولو تمسّكنا بما وضع لنا عليُّ بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه وهو باب مدينة علم رسول الله من شروط وتوجيهات في اتخاذ البطانة لأفلحنا ، روي عنه (ع) :
“إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً، ومن شَرَكَهم في الآثام ! فلا يكونن لك بطانة، فإنهم أعوان الأَثَمَة وإخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم، ممن لم يعاون ظالماً على ظلمه ولا آثما على إثمه”
إن للقيادة الإسلاميّة رجالها وليس الكل رجالها . . ليس كل من ادّعى القيادة كان قائداً وليس كل من وصف بكونه قائداً نجح في قيادته وليس كل من نجح استمر بنجاحه .
ولو أراد قائد مسلم النجاح فعليه أن يسير بسيرة الأئمة الأطهار (ع) والتي ليس بالضرورة ستحقق له كل النجاح الدنيوي الذي يتمناه هو أو يراه هو المطلوب . . لكنها ستضمن له الفلاح والظفر الأخروي حتماً وهو المطلوب.
ــــــــــ