الخميس - 18 ابريل 2024

متى تربح الجغرافيا ـ متى يخسر التاريخ ؟! العراق وثنائية الربح والخسارة 

منذ سنتين
الخميس - 18 ابريل 2024


علي عنبر السعدي ||

التاريخ هو فعل الإنسان في الجغرافيا، وأهم فصوله ، تلك الممتلئة بالصراع والمعارك والمؤامرات ،وما يرتبط عموماً بالقادة والملوك ، فهم محور الفعل ومركز الحدث التاريخي ،فماذا نقرأ من بدايات التاريخ سوى ما كتب عن جلجامش وعظمته ، وأعمال أوركاجينا وأورنمو وحمورابي ونبوخذ نصر، كذلك ملوك آشور كسنحاريب وأسرحدون وبانيبال وغيرهم من الملوك.
أما في الأمم الأخرى ،فأعظم تاريخ للإغريق ، هو ما صنعه طغاتهم ، من طاغية سيراكوزا ، إلى الإسكندر المقدوني ،كما ظهرت أبرز انجازاتهم الفلسفية والأدبية ،في عهود الطغاة كذلك ،فيما يدور التاريخ الروماني حول نيرون وإحراقه لروما ،وكاليغولا وتهتكه ويوليوس قيصر وفتوحاته ، أما تاريخ فارس ، فظهرمع سير الفاتح قورش والخاسر داريوس ،والملك المجنون قمبيز ، وصاحب الإيوان كسرى، في حين لايكاد يُذكر من التاريخ المصري سوى مافعله الفراعنة .
وأعظم فصول التاريخ الروسي ، ما سجلها بطرس الأكبر وايفان الرهيب وكاترين ، وصولاً الى العصر الحديث وما تركه لينين وستالين وسواهم .
وفي فرنسا وبريطانيا وألمانيا ،كان تاريخ لويس الرابع عشر والوزير الداهية ريشيليو والقائد الإمبراطور نابليون بونابرت هي الفصول الأكثر تجلياً في التاريخ الفرنسي ، فيما يتباهى البريطانيون بملوكهم المن هنري الثامن إلى ادوارد إلى اليزابيت ، وبقادتهم الكبار كرومويل ولينغنتون ومونتغمري وسواهم ، فيما بسمارك وهتلر وروميل وآخرين ، في المانيا .
وإذا كان التاريخ هو الفعل في لغة الزمن ، فإن الجغرافيا هي المفعول به ، فالتاريخ في موقع الظالم ، فيما الجغرافيا في موقع المظلوم ، لكن المفارقة ان الجغرافيا كانت تنتصر مع انتصار الطغاة ،وتخسر بهزيمتهم ،أما التاريخ ، فهو (منتصر) في الحالتين ،رغم انه مجرد شاهد سلبي على الأحداث ، من دون ان يلعب دوراً في حصولها ، فيما تشارك الجغرافيا بفعالية في صنع الحدث والتأثير فيه.
أول انتصار سجّلته الجغرافيا ، وقع بالعراق في عصور ما قبل الميلاد ،ك حينما اكتسحت جيوش الأكديين ،المناطق شرقاً وغربا وفرضت سيطرتها على مساحات شاسعة ، ثم استمر ذلك أيام الآشوريين والبابليين ، أما أول هزيمة للجغرافيا العراقية ، فكانت حين سقطت بابل بيد كورش ، واستمرت مفاعيل الهزيمة أزمنة طويلة ، قبل ان يعكس التاريخ أحداثه لتبنى بغداد قريبة من بابل ، وتصبح مالكة لجغرافية هائلة الاتساع ، أما الخسارة الأعظم للجغرافيا، فكانت في عهد صدام حسين .
حافظت الجغرافيا العراقية على غزارة مياهها وخصوبة تربتها ونضارة حقولها وكثافة نخيلها ،كما سيطرت على أتربتها وصحرائها وغسلت أملاحها ووضعت قوانين لتنظيم حياتها، طوال أكثر من ستة آلاف عام من عمر الحضارة العراقية ،الا أنها بدأت تفقد كلّ ذلك ، ما ان تسلمّ أشرس طاغية عرفته الجغرافيا العراقية ، فقد ابتدأ عهده بتجفيف مياه الأهوار التي طالما شكّلت سدّاً طبيعياً أوقف زحف التصحر وحجزه بعيداً عن حقول العراق ،ثم أعلن حرباً على ساكنيها ، بعدها سيق مئات الآلاف من الشباب ،لخوض حروب خلخلت التربة بانفجاراتها وطحنت الأيدي التي كانت ترعى الأرض وتزرعها ،كذلك قطعت رقاب ملايين النخيل لتوضع أسقفاً للخنادق الحربية ، وما تبقى من النخيل قتله الإهمال .
كما دخلت الأنهار شيخوختها ، بعد أن وجدت بعض دول الجوار ظروفاً ملائمة لخنقها ،وما كادت الحرب الأولى تنتهي ،حتى اندلعت حرب ثانية أشدّ قسوة ،وفيها تلقت الجغرافيا العراقية أطناناً من القنابل والصواريخ ، ما لم تشهده أوربا طوال الحربين العالميتين ( الأولى والثانية ) ،ثم استلزم الطاغية غزواً خارجياً للإطاحة به ، فكان ان التربة تخلخلت فهاجت الأتربة ، وطفت الأملاح فاكتسحت الخصوبة ،ثم اقتطعت أطراف أخرى وضمّت إلى كيان مجاور ،لتلوى ذراع العراق بعدما سجلت الجغرافيا العراقية نكبتها الكبرى.
لكن العراق ، سيهدي التاريخ فصول انتصار، ويهدي الجغرافيا فصول بناء واعمار- وسيهدي شعبه فصول ازدهار ،فذلك ماكان طوال أزمنته ، الموغلة في الأزمنة .

ــــــــــــــــــــــــ