علي عنبر السعدي ||
– القائد الوحيد الذي حاول استعادة ارث العراق الحضاري .
– القرشيون على خطى التوراتيين .
العرب لم ينصفوا العراق ، رغم ان الحضارة العراقية هي من أطلق عليهم تلك التسمية “أربو” كما جاء في الألواح الآشورية ، وتعني حاملي القرب ، وفي عصور ماقبل الاسلام ،كانت الحيرة بملوكها المناذرة ،هم ملوك العرب ، الا ان أياً منهم ، لم يعتبر نفسه منتمياً للحضارة الأقدم والأهم سومر وأكد وبابل ،وأحدثوا شبه انقطاع عنها ، خاصة بعد سقوط بابل في 539 ق/م ، وهيمنة الدولة الفارسية على المنطقة ،وبما نسخته ومسخته من الحضارة الرافدينية ، وشيوع الزرادشتية مكانها .
حين ظهر الاسلام ، جمع في رسالته بين الزرادشتية ديانة الدولة الفارسية ، وبين التوراتية ،وهي واحدة من الديانات الرافدينية في الأصل ، لكنها اختزلت كافة المعتقدات الرافدينية القديمة ،وأعادت صياغتها ومن ثم تقديمها باعتبارها التاريخ المقدس الذي نسخ ما قبله وألغاه ، وذلك مايفعله الاسلام لاحقاً حين اختزل كافة الأديان والمعتقدات التي سبقته باحتوائها وتقديمها بصورة أخرى ،وان بذات المضمون .
وحين كرس انتصاره في الجزيرة ، اتجه المسلون الأوائل نحو بلاد الانهار والاخضرار ، فكان العراق في مقدمة “ضحايا ” الفتوحات ، وأكثر من وقع عليه حيف الصدمة الأولى ، وبصرف النظرعن الايمان الديني ،فأهل العراق حرموا من لغاتهم الرافدينية ،ومعتقداتهم القديمة ومورثاتهم الثقافية ،التي عادت اليهم بشكل آخر وبصياغات مختلفة ،ألزموا على الايمان بها– قسراً أو طوعاً – وبشكل مختلف عما كانوا يعرفونه ويتوارثونه ، كما أطلق عليهم (الموالي) أي أن يكونوا موالين وتابعين لفاتحين ،طالما كانوا ادنى منهم في المدنية والتحضّر .
الإمام علي ، بثقافته وفصاحته وسعة اطلاعه وحسّه الانساني ، رأى مايحدث من انتهاكات للحقيقة وتشويه لأسس الحضارة ، فحاول أن يعيد للعراق بعض اعتباره ،وكانت محاولة نقل العاصمة الى الكوفة ،القريبة من المدن التاريخية للحضارة الرافدينية ، هي أولى تلك المحاولات ، لخلق مدينة حضارية تحترم حقوق الانسان وتقيم نظاماً قائماً على الحريات ،كما عرفته ومارسته الحضارة الرافدينية القديمة ،فقد أدرك ان العرب لن يدخلوا علم الحضارة ،ان لم يستطيعوا الدخول في مدنية عريقة بقوانينها وتشريعاتها ونظمها ،كانت قائمة قبلهم بأزمنة طويلة ، لكنهم نقلوا النسخة المشوهة عنها ، المليئة بمرويات امتلأت بالزيف .
لم ينجح سعي الامام علي ،في تحويل الكوفة الى مدينة رافدينية ، فتلك المدن قطعت أزمنة طويلة من البناء التراكمي للمنجز الحضاري ، ووضعت كل ما من شأنه رفع مستوى معيشتها وتلبية احتياجاتها ،كما كونت دولة وفق أوضاعها الاجتماعية التي تمرست في البناء المجتمعي وصياغاتها القانونية والأدبية وعلاقاتها الاقتصادية ،كما أدمجت من لجأ اليها من أماكن أخرى ، وطبّعتهم بطابعها الحضاري .
أما الكوفة ،فكانت بمثابة معسكر دخلته القبائل العربية بشكل جماعي ،لم يمهلها الزمن ولا الأحداث المتلاحقة ، للبناء المجتمعي ،ولا اقامة نظام حضاري عريق كما المدن الرافدينية ، لقد حملوا كل عاداتهم وتقاليدهم القبيلة ،ولم يكن من السهل تمرّنهم على السلوك المديني بكل مايعنيه من تشابك العلاقات وتعدد مستوياتها .
أدرك الإمام علي ،إن الكوفة لن ترتقي الى أن تكون مدينة رافدينية واقعاً ،وستبقى مشدودة الى سلوكياتها الصحراوية وتناحرها القبائلي ، لذا استعاض عن ذلك ، بالمقولة والأمثولة ، السلوك الفردي النبيل ،والمقولة الحكيمة ،فجاءت أقوال من نوع : “ربي ماعبدتك خوفاً من عقابك ،ولاطمعاً في ثوابك ، انما وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك ” وكانت تلك المقولة ،الركيزة الأهم في توجهات الإمام علي الفكرية /الفلسفية ،والقراءة التاريخية على السواء ، فكانت في جوهرها ،عودة الى الفلسفات الرافدينية في نظرتهم للإله بكونه فكرة عظمي انسانية أولاً ، وليس سوط عذاب أو انتقام من جهة ،أو هبات ووعد من جهة أخرى (*)- راجع : الالحاد والتدين في الموروث العراقي – كتاب “شيعة ضد الشيعة ” دار العارف /بيروت /2023 – ص 87 وما تلاها .
وحتى حينما صدر عن الامام سلسلة من الخطب في مدح أهل الكوفة بما فيها قوله (نحن قوم من كوفان أو كوثان – وهو الطين الناعم المخلوط بالحصى الصغيرة – ليوضح حقيقة انتمائه الى تلك الخصوبة الجغرافية والحضارية – نسبوا اليه كلاماً قاسياً ونابياً لايمكن أن يصدر من امام اشتهر بالحكمة وحسن اللفظ ، بل والصقوا حتى قول اسوأ الطغاة ممن حكموا العراق (الحجاج بن يوسف ) لينسبوه الى الامام .
لقد تصرفت قريش مع الرافدينيين ،كما تصرف التوراتيون من قبلهم ،طمس وتشويه كل مايتعلق بأرثهم الحضاري ،فالتوراتيون انتحلوا ذلك الإرث الهائل لأنفسهم ،وقدموه باعتباره من نتاجهم ،وكذلك فعلت قريش التي حاربت الرسالة الاسلامية بداية ظهورها وتآمروا على قتل نبيها ،اعتقاداً منهم انها ستسلبهم نفوذهم وموقعهم بين القبائل ، كسدنة وسادة للمكان المقدس (مكة) التي بناها نبي قدم من بلاد الرافدين ، لكنهم سرعان ما رأوا ان بإمكانهم استثمار تلك الرسالة ذاتها ،للامتداد في جهات الأرض الاربع ،مما لاتوفره لهم معتقداتهم القديمة ، لذا كان من المتوقع أن تحارب قريش ، المصدر والجذر الاساس التي بنيت عليه تعاليم تلك الرسالة ،كي لاينكشف الأصل .
الحلقة القادمة
– انصاف الامام للعراق – وقسوة الزيف عند العرب .
– تاريخ الاختلاف – وحاضر الاكذوبة .
ــــــــــــــــــــ