الخميس - 28 مارس 2024
منذ سنة واحدة
الخميس - 28 مارس 2024


محمّد صادق الهاشميّ ||

قرأت لكم مقالاً تحت عنوان ( التربية الحقّة ) , ووجدتُ في المقال ثمّة ملاحظاتٍ توجب النقاش والكلام في مقامين :
الأوّل: تدّعون أنّ تواجد الأنبياء والعرفاء في ظهرانيّ الأمّة يفضي كنتيجة طبيعيّة إلى تربيتها . وهنا جملة إشارات:
1. لا يوجدُ دليل على أنّ تواجد النبيّ أو المعصوم أو العارف – بما هو تواجد – في بقعة جغرافيةٍ مّا، أو تواجده في أمّة يجعل من هذه الأمّة قد تربتْ تربيةً صحيحةً، فهذا الكلام على اطلاقه ليس صحيحاً، وانما يمكن القبولُ به بنحو جزئي، فقد يصحّ أولا يصحّ؛ كون الهداية لا تتحقق بمجرّد التواجد، بل الأمر يتعلّق بالظروف و سيكولوجيا الأفراد والمؤثّرات , والدليل على ذلك أنّ الأنبياء قد تواجدوا بين أممهم، وعملوا، وبلّغوا وبالغوا في النصح، إلّا أنّ النتائج – احيانا وربماغالبا – كانت عكسية , وقد انتهت حياتهم بالقتل من أممهم , وعلى سبيل المثال النبي يحيى (ع) فقد قتل وهدر دمه ورأسه أُهدي إلى بغي من بغايا الشام ، فعن الشّعبيّ، عن عبد اللّه بن عمر: إنّه كان بماء له، فبلغه أنّ الحسين (عليه السّلام) قد توجّه إلى العراق، فجاء إليه، وأشار عليه بالطّاعة والانقياد، وحذّره من مشاققة أهل العناد، فقال: يا عبد اللّه! أما علمت أنّ من هوان الدّنيا على اللّه أنّ رأس يحيى بن زكريّا (عليه السّلام) أهدي إلى بغي‏ من بغايا بني إسرائيل، أما تعلم إنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشّمس سبعين نبيّا، ثمّ يبيعون و يشترون كأن لم يصنعوا شيئا، فلم يعجّل اللّه عليهم، بل أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر ذي انتقام.ومن يستعرض حركة التاريخ يجدها زاخرة بأحداث وشواهد قتلهم الأنبياء وتعذيبهم علي يد أممهم .
والقران صرّح في استعراض أحداث التاريخ فقال: { لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [المائدة : 70]، وقال : {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأعراف : 30]، ومن يبحث في هذا المضمار يجد من الشواهد الكثيرة .
2. لو صحّ الافتراض المذكور في المقال لكان لزاما على المجتمع المكّيّ والمدنيّ الآن الذي كان مسرحا لميلاد النبي (ص ) وحركته في غايةِ الايمان والرقي بينما نجد اليوم هذا المجتمع مصدر الوهابية والانحراف. فإنْ قيل: إنّ التأثيرات اللاحقة هي التي أدّت بمجتمع الجزيرة إلى الانحراف فضلاً عن الانحراف والقسوة والجهل الذي واجهوا به النبيّ (ص).
قلت: إنّ هذا القول دليل على بطلان الاطلاق في أنّ تواجد الأنبياء دليل على صلاح مجتمعاتهم, وإنّما الصلاح والانحراف تابع إلى مؤثّرات أخرى وظروف ومفاهيم وفلسفات لا تتصل بالتواجد.
أمّا إذا أخذنا زمن الإمام أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام ) فإننا نجد المارقين والقاسطين والناكثين، ونجد المؤمنين والمخلصين والصادقين أيضا ، إذن القضية في (التربية الحقّة ) لا تتعلّق مطلقاً بالمكان والمكين بمجرّده، وليس كلّ من نهض بمهمّة التربية أنتج أمّةً فاضلةً، بقدر ما يتعلّق ذلك بأمور أخرى.
هذا فضلا عن عدم امكانية القول بأفضلية مجتمع على آخر لمجرد تواجد الصالحين فيه، فقد يكون المجتمع رافضاً للصلاح، وقد يكون متقبلاً له في زمن آخر، فالمجتمعات وصناعتها وتربيتها تخضع لظروف متعددة وتوفيقات ذاتية وموضوعية وخارجية وربانية – كما ناقش ذلك العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان وهذا ما تحدّثنا به حركة التاريخ من المجتمعات التي عاشت مع الأنبياء في مصر والجزيرة والشام والعراق ليس بدعا من حركة التاريخ , واليكم الدليل القرآنيّ الصريح فيما يؤيّد كلامنا :{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد : 38].
وعليه لا ينهض القول بأنّ وجود الأنبياء في أمّة دليلٌ على صلاحها، وإنّما هو دليل على أهمّية أداء الدور مع قطع النظر عن مدى استجابة الأمّة لهم ، ولا يصح ما يدّعيه الآخرون بأنّ كثرة وجود الأنبياء في الجزيرة العربية دليل على عمق الانحراف للمجتمع العربي الذي كثّف الله تعالى لأجله إرسال الرسل، فكلا الاتجاهين قاصران عن الدليل، وتتعارض معه الوقائع والنصوص.
الثاني : قوله: (واعتقد بيني وبين الله أنّ خلاصة تربية الأنبياء والأولياء العرفاء والعلماء – علماء الباطن والظاهر – وصلت إلى ولي الله في أرضه ( السيّد الشهيد محمّد محمّد صادق الصدر ) (رضوان الله عليه) ، فكان هو المربّي الأكبر في عصرنا هذا لأهل العراق، وكان يستعمل عنوان المجتهد والمرجع وولي أمر المسلمين ويستعمل عنوان المفسّر والمحقق.
فإنّ هذا الكلام يصح لأيّ مرجع وعالم ومخلص، ولا دليل على الاختصاص مطلقاً، فالشهيد الصدر الثاني قدّم للأمّة الكثير، وتباني القوم على عرفانه وزهده وورعه، وقدرته في مواجهة الطاغوت، والنهوض بالأمّة، وهذا أمر مُسَلَمٌ إلّا أنّ حركة الاصلاح التي نهض بها كانت امتداداً لمراجع سبقوه وساوقوه حركة، وتلك هي مسلمات السنن الربانية، ففي العراق أشرقت قاماتٌ كبيرةٌ ومراجع ومصلحين، وكلّ واحد منهم يغطّي مرحلةً ومساحةً معيّنةً في زمنة، وتلك هي حركة التاريخ. ففي عالمنا المعاصر مراجع شكّلوا حلقات تكاملية منذ المرجع كاشف الغطاء، ثمّ المرجع السيّد محسن الحكيم، ثمّ المرجع الشهيد الصّدر الأوّل والإمام الخمينيّ , كما لا تفيد حركة الاصلاح الربانية التجزئة، بل إنّ حركة الاصلاح تكامليةٌ مستمرةٌ ولا تتوقّف {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران : 34].
السلام الجمعة 10-2-2023

ــــــــــــــــــــ