د. علي المؤمن ||
لعل من أهم تجليات وطنية الشيعي العراقي وتفعيل طموحه في إعادة بناء وطنه، هو أن يعمل بالطرق القانونية والعرفية على إنهاء معارك الهويات الطائفية والقومية، وتحقيق الاستقرار الطائفي والسياسي للوطن، والقضاء على التحاصص المكوناتي المعرقل لحركة الدولة والحكومة، وذلك عبر حسم الناظم المذهبي للوطن والدولة والنظام السياسي، والمتمثل بمذهب أغلبية الشعب، ليس من أجل تحقيق أهداف طائفية، بل من أجل بلورة هوية الوطن ووضوحها واستقرارها، لتكون ناظماً شكلياً وجوهرياً لحركة الدولة، ومن شأن هذا الناظم المذهبي الشيعي حماية حقوق أتباع المذاهب والأديان الأخرى وحرياتهم بشكل أفضل، فضلاً عن حقوق أبناء القوميات، وصهرهم جميعاً في منظومة الدولة، دون تمييز وإقصاء وتحاصص. أي أن إقرار هذا الناظم المذهبي، يصب في مصلحة جميع المكونات الدينية والمذهبية، السنة قبل الشيعة، والمسيحيين قبل المسلمين.
وربما يتصور بعض المهووسين بالشعارات، بأن هذا العمل يصادر الهويات المذهبية الأخرى، ويحوّل الوطن الى وطن الطائفة الإقصائية الواحدة، على غرار السعودية، أو الى دولة إسلامية شيعية، على غرار إيران، وهذا التصور غير صحيح إطلاقاً، لأن جميع الدول المتحضرة تستند الى ناظم ديني مذهبي، يمثل هوية الدولة وأعرافها، وليس هوية المجتمع، ويحافظ على استقرارها التشريعي والسياسي والاجتماعي، بما فيها الدول العلمانية الغربية.
فالدولة في بريطانيا هي إنجيلكانية، والملك هو رئيس الكنيسة الانجيلكانية، برغم وجود مذاهب مسيحية أخرى، يتمتع أتباعها بحقوقهم كافة، وبرغم كون نظامها علمانياً، وهكذا الولايات المتحدة الأمريكية؛ فإن هوية الدولة فيها بروتستانتية، رغم أن أكثر من نصف السكان هم من الكاثوليك والارثدوكس والكنائس الأخرى، وهوية الهند هندوسية، رغم وجود (200) مليون مسلم و (100) مليون بوذي و(60) مليون سيخي فيها، والسعودية وهابية، رغم أن أكثر من نصف سكانها من أتباع المذاهب الأخرى، ولاسيما الشيعة الذين تزيد نسبتهم على 20 % من عدد السكان، والأمر نفسه بالنسبة لباكستان السنية، والعراق قبل 2003 الذي كان سنياً حنفياً، رغم أن 65 % من سكانه شيعة. وهكذا فإن هوية دولة اليابان طاوية، وتايلند بوذية، وايطاليا كاثوليكية، وايران شيعية إثني عشرية، واليمن شيعية زيدية، والمغرب سنية مالكية، ومصر سنية حنفية، وعمان إباضية، وأغلب البلدان العربية والإسلامية سنية.
أي أن تحديد الهوية المذهبية للدولة وناظمها الديني؛ قضية وطنية ضرورية، تسد ذرائع حروب الهويات، وليس عيباً وبدعة وتخلفاً، ولا يتعارض مع مدنية الدولة ومع الوطنية، ولا علاقة لها بكون النظام إسلامياً أو علمانياً، بدليل الأمثلة التي ذكرناها، بل هو عين التحضر والوعي بمتطلبات العصر والحكم العصري.
وبناء عليه؛ فإن من البديهي أن تخضع هوية الدولة العراقية، كغيرها من دول العالم، الى الحقائق السكانية والانتماء المذهبي لأغلبية المواطنين، وإن كان انتماء شكلياً، لأن موضوع الهوية المذهبية يرتبط بالجانب الاجتماعي الإنساني وليس العقدي. وتقدّر نسبة الشيعة الإثني عشرية في العراق، وفق الاحصاءات التقريبية المحايدة: 65 % من عدد سكان العراق، مقابل 16 % سنة عرب و 14% سنة كرد و2% سنة تركمان و3% للأقليات الدينية.
أما الإبقاء على هوية الدولة المذهبية عائمة، والتذرع بالشعارات التخديرية الفضفاضة؛ فسيساهم الى الأبد في عدم الاستقرار السياسي والتشريعي والأمني. ولكي نكون أكثر وضوحاً؛ فإن عدم مبادرة القوى السياسية والدينية الشيعية الى طرح هذا الموضوع المصيري وتطبيقه، يعود الى مبررات غير واقعية، وترتبط بالمصالح السياسية غالباً، أو بعدم وعيهم بالموضوع وأهميته وتفاصيله، أو تخوّفهم من انقلاب الشريك السني على الدولة، أو تآمر المحيط السني الطائفي، أو كونه لايندرج ضمن أولوياتها وأولويات بناء الدولة، وهي مبررات لاتصمد أبداً أمام ما يح،ققه المشروع من مصلحة ستراتيجية للوطن، تفوق بكثير أية سلبيات طبيعية ممكنة، لأن التحديد الواقعي للمصلحة يتم على أساس قياس نسبة سلبيات أي موضوع وإيجابياته، ولايمكن لأي قرار مصيري أن يكون بلا سلبيات.
فلماذا يجب أن يكون العراق ضحية المناورات السياسية اليومية وإرضاء الشركاء لأسباب سلطوية، تحت شعار الوحدة الوطنية؟!، وأن يشذ العراق عن بلدان الكرة الأرضية ويتفلّت من إلزامات الواقع وضروراته، حين يكون فاقداً لهوية دينية مذهبية، تساهم في استقراره؟، خاصة وأن هذه الهوية قائمة عملياً في كل ركن من أركان الوطن، ولاتحتاج إلّا الى الإرادة السياسية والجرأة الوطنية لإقرارها، ثم لتجد طريقها الى أدبيات الدولة وتشريعاتها ومفاصلها وأعرافها وتقاليدها.
ــــــــــــــــــــ