الجمعة - 29 مارس 2024

تأملات في واقعنا المعاش (٣) مقالة لسماحة السيد صادق محمد باقر الحكيم

منذ 5 سنوات
الجمعة - 29 مارس 2024

تأملات في واقعنا المعاش (٢)

وكذلك هناك ركيزة أو قاعدة أخرى، وهي حسن الخلق ومداراة الناس، وكذلك تعني في العلاقات الأساس والقاعدة الأخلاقية لمنهج الانفتاح في العلاقات، حيث لا يمكن أن يتحقق الانفتاح والتوسع في العلاقات إلا على أساس وجود القاعدة الأخلاقية في التعامل مع الآخرين؛ ولابد أن نفهم هنا أن المضمون الأخلاقي للعلاقات الاجتماعية في النظرية الاسلامية هو عبارة عن الحب والود، فهي ليست مجرد علاقة شكلية فارغة أو آلية ذات مصالح ومنافع متبادلة، بل هي علاقة عاطفية شعورية، لان العلاقات الاجتماعية لا تتكامل من خلال المصالح الشخصية أو العامة فحسب، وإنما تتكامل وتستحكم من خلال الحب والولاء والود بين أطرافها؛ ولا شك أن حسن الخلق والتودد والمجاملة ومداراة الناس تُعدُّ تعبيراً عن هذا الحب، حيث تكون الخطوة الاولى المهمة في هذا الطريق، وتزيل الحواجز والمؤثرات السلبية التي تمنع وجود هذا الحب، والتعبير عنه عندما تتكامل مقوماته وعناصره الأخرى التي سوف نشير إليها.

ولذا عندما نراجع احاديث الرسول وأهل البيت صلوات الله عليهم اجمعين، نجد ما يؤكد هذا المضمون وآثاره، فقد ذكر صاحب الوسائل الحر العاملي عن الكليني بسند صحيح، عن أبي جعفر عليه السلام (ابي عبد الله عليه السلام هكذا في المصدر) قال: ((إنّ أعرابياً من بني تميم أتى النبي صلى الله عليه واله فقال له: أوصني، فكان ممّا أوصاه: تحبب إلى الناس يحبّوك)). وكذلك نرى ان صاحب الوسائل قد خصص بابين في احكام العِشرة على حسن الخلق ومداراة الناس، وقد أورد فيهما أحاديث عديدة، تؤكد حقيقة ما ذكرناه أيضا، بحيث تربط تكامل الإيمان بالتودد، وذلك لأنه ورد أيضا ما يشير إلى أن الإيمان الحقيقي هو الحب، وأن الدين هو الحب.

وهنا نورد بعض النصوص (المعتبرة) التي تؤكد هذه الحقائق:

عن ابي جعفر الباقر عليه السلام قال: ((إن أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلقاً))، وعن ابي عبد الله الصادق عليه السلام قال: ((إنّ الخلق الحسن يميث الخطيئة كما تميث الشمس الجليد))، وكذلك عن الصادق عليه السلام قال: ((إن حسن الخلق يبلغ بصاحبه درجة الصائم القائم))، وعنه عليه السلام قال: ((أكمل الناس عقلاً أحسنهم خلقا))، وعنه عليه السلام قال: ((إن الله تبارك وتعالى ليعطي العبد من الثواب على حسن الخلق كما يعطي المجاهد في سبيل الله يغدو عليه ويروح))، وعنه عليه السلام قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: أمرني ربّي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض))، وعنه عليه السلام قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: مداراة الناس نصف الإيمان، والرفق بهم نصف العيش..)) الحديث.. وعن سفيان بن عيينة قال: ((قلت للزهري: لقيت علي بن الحسين عليه السلام؟ قال: نعم لقيته، وما لقيت أحداً أفضل منه، وما علمت له صديقاً في السر ولا عدواً في العلانية، فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: لأني لم أرَ أحداً وإن كان يحبه إلّا وهو لشدة معرفته بفضله يحسده، ولا رأيت أحداً وإن كان يبغضه إلّا وهو لشدة مداراته له يداريه))، وعن فضيل بن يسار قال: (( سألت أبا عبد الله (الصادق) عليه السلام عن الحب والبغض أمن الإيمان هو؟ فقال: وهل الإيمان إلّا الحب والبغض، ثم تأول هذه الآية: {..حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ}))، وعن صفوان الجمال، عن أبي عبيدة زياد الحذّاء، عن ابي جعفر عليه السلام (في الحديث) أنّه قال له: ((يا زياد ويحك وهل الدّين إلّا الحبّ؟ ألا ترى إلى قوله: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ..}، أولا ترى قول الله لمحمد صلى الله عليه واله وسلم: {..حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ..}، وقال: {..يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ..}، فقال: الدِّين هو الحبّ، والحبّ هو الدِّين))، وان كنا نشاهد في هذه الروايات، أن المراد فيها من الحب هو حب الله تعالى، فلا شك أن حبّ المؤمنين في الله هو شعبة من شعب حب الله، كما ورد في النصوص. ومن ذلك ما رواه سلام بن المستنير، عن ابي جعفر (الباقر) عليه السلام قال: ((ودّ المؤمن [للمؤمن، خ] في الله من أعظم شعب الإيمان ألا ومن أحبّ في الله وأبغض في الله وأعطى في الله ومنع في الله فهو من أصفياء الله)). كما روي عن ابي عبد الله عليه السلام قوله: ((من أوثق عرى الإيمان أن تحبّ في الله وتبغض في الله وتعطي في الله وتمنع في الله)).

ومن الله نستمد العون والتوفيق

الفقير والمحب في الله

صادق محمد باقر الحكيم

الحلقة السابقة :  تأملات في واقعنا المعاش (٢)