الخميس - 28 مارس 2024
منذ 3 سنوات
الخميس - 28 مارس 2024


د.حيدر البرزنجي|

• دراسةاستثنائية الظهور وفاعلية النتائج.
• قراءة في مسار المرحلة المقبلة
• هل يمكن استثمار التجربة الميدانية في المواجهة الاعلامية ؟
• حكومة الكاظمي – ماذا ستفعل ؟ وماهي مقومات تحركها؟

“الحشد ” ظاهرة شغلت الكثير من المتابعين – اعلامياً وسياسياً – لكنها ماتزال تشغل اهتماماً أقل في مجال الدراسات المنهجية – في جانبيها الاجتماعي والعسكري-.
هل كان المجتمع العراقي مهيأ لاستنهاض هذه الأعداد الكبيرة من المتطوعين ؟ وهو المنغمس في حروب متواصلة لم تنقطع منذ عقود ؟ كيف تجاوز العراقيون احباطاتهم ونكباتهم ؟ وماهي المرتكزات التي استندوا إليها ؟
لاشك انها أسئلة تحتاج الى دراسات تتعلق ببنية المجتمع العراقي ذاته ،ورؤية التشكّل النفسي والموروث المستمد من عوامل يلعب التاريخ الشفاهي المتناقل والمتراكم ، الذي يظهر ويتكثف بما هو خارج المتوقع – أو هكذا يبدو – فتتحول المفارقات الى بداهات تترك تأثيرها الفاعل في مسار الأحداث .
تأطير صورة المشهد العراقي العام قبيل ظهور داعش ، كان يشير بأن المجتمع العراقي بات مهيئاً للهزيمة ، والثمرة جاهزة للقطاف ، فقد توالت الضربات الإرهابية التي نفذتها العديد من المجاميع المتشددة كالقاعدة وغيرها ، ولم يبق سوى ظهور تنظيم أكثر قوة وقدرة ، يجمع الحصيلة النهائية ويستثمرها في “دولة” تفرض سيطرتها بشكل مباشر .
يحتوي المجتمع العراقي على خاصية يمكن تسميتها “الانفلات” ويطلق عليها في علم السياسة “قلب الطاولة ” انه من تلك المجتمعات صعبة التوقع في ردود أفعالها ، وقد وقع في خطأ كل من حاول تأطير ذلك المجتمع في نمطيات جاهزة ، بما فيهم عالم الاجتماع الأشهر “علي الوردي” الذي وصف العراقيين ب” الازدواجية” .
مشهد غرائبي ذلك الذي حصل صبيحة العاشر من حزيران وما تلاها ، فأقصى ماتوقعته القوى المعادية ، جيش لم يكمل بناءه بعد ، منخور بالفساد واللافاعلية ، وقوات شرطة محلية يمكن التأثير عليها وتفكيكها ، ومن ثم ينكشف العراق ولن يبقى له ما يقف بوجه تنظيم معبّأ ومدرب جيداً ، يقوده ضباط برتب عالية ، ويحظى بدعم مالي وبشري بلا حدود من دول اقليمية ومحلية وعالمية ، لذا ف”النصر” كان مضموناً .
تلك حسابات بدت واقعية في الأيام الأولى للاندفاع الداعشي ، وكان كل شيء في الميدان وفي المحيط ، يسير كما خطط له ، لكن حصل ما لم يكن بالمحتسب .
تظهر “لكن ” هنا ليس بكونها أداة استدراك ، بل نقطة تحوّل في حياة مجتمعات وبلدان ، كان مقدّراً لها ان تسقط بيد داعش ، فيما لو ثبتت “دولتها ” في العراق وطبقت شعارها “باقية وتتمدد”.
النقطة الحرجة تمثلت بوصول داعش الى تخوم بغداد ،ولم يعد في الوقت متسع لأي نوع من التردد ، فاندفعت جموع المتطوعين كما في مشهد “سوريالي” ممزوج بواقعية شديدة ، لتقيم جدار صدّ أثبتت الوقائع اللاحقة ان اختراقه لم يكن في المتناول .
“الإرث المنتفض” ذلك ما يمكن استخراجه من امتداد التاريخ العراقي ،ومنذ أن تشكل أول “حشد شعبي” في التاريخ حينما تنادى شباب المدن السومرية عام 2220ق/م لطرد المحتلين الكوتيين ،ثم تكرر في مراحل مختلفة عبر مسارات زمنية متفاوتة ..
الحرب الشعبية ،أو حرب الأنصار ،حركات شهدتها وعرفتها الكثير من الشعوب التي واجهت احتلالاً ،فما الذي ميّز تجربة الحشد الشعبي عن غيره ؟؟ وهل يعتبر كظاهرة ،هي الأولى من نوعها ؟؟ ماهي المخاطر التي تكتنف وجوده ؟ وكيف يمكن تجاوزها ؟؟
2-الحشد – الفاعلية الاجتماعية والمأسسة القانونية – بين الاندماج والاستقلالية .
كأنما كلمة “سرّ” كبيرة الوقع ،تلك الفتوى التي صدرت من المرجعية ، ونبّهت الى مقدار “القوة الكامنة” في المجتمع العراقي ، وسواء كانت الفتوى هي الدافع ،أم كانت الشرارة التي أطلقت ماهو كامن اصلاً ، فالنتائج كانت شديدة الوضوح .
هل كان مقدراً لتلك الفتوى أن تسجّل النجاح ذاته لو انها اطلقت في مجتمع آخر ؟ ذلك مايحتاج تبيانه الى دراسات متأنية ،لكن مايمكن قوله ان استجابة المجتمع العراقي تجاوزت أكثر التوقعات تفاؤلاً ،فابتدأت المفارقات تتخذ شكلاً معكوساً .
، الشعب الذي بدأ منهاراً ومتشكياً ويائساً – بل ومستسلماً لأقداره – كشف فجأة عن “مارد” أسطوري ، كان يكفيه استخدام جزء من تلك القوة الكامنة ،ليقيم في البداية مايسمى ” الدفاع التكتيكي ” ينتقل بعدها الى تحقيق التكافؤ العسكري ،ثم الى “الهجوم الاستراتيجي ” الذي انتهى بهزيمة داعش وتحرير المدن والمساحات التي تمدد فيها .
لقد ظهر ان اولئك المتطوعين ، المندفعين بحماس ،استوعبوا تكتيكات العدو القتالية ، التي جمعتْ بين العمليات الانتحارية والانغماسية مع اساليب القتال بطرق متعددة لم تكن مألوفة من قبل .
تلك الميزة الأولى التي سجلتها تجربة الحشد الشعبي اختلافاً عن تجربة حركات التحرر في العالم ، فتلك الحركات مارست الحرب الشعبية وعمليات المقاومة ضد جيوش نظامية معروفة الحركة والتجمع ، لكنها لم تخضّ القتال مع عدو من هذا النوع امتلك الخصائص التالية :
– 1- الحاضنة الاجتماعية – كانت داعش قد مهدت لظهورها بحملة تحريض منظّمة في وسط اجتماعي صوّر له عن “المظلومية” والتهميش التي مارستها حكومة يقودها “خصم مذهبي ” وضع في الموقع الأدنى ،وتم تصويره باعتباره “مغتصباً ” لحكم بلد وأرض ليس من حقّه ان يحكمها ، وكانت مقولة من نوع “لا ولاية لشيعي على سني ” التي تداولتها بعض الأوساط المتشددة ،قد اتخذت كمنصة انطلاق لما تلاها من تهيئة الحاضنة الاجتماعية للظهور الداعشي.
-2- الجغرافيا المقاتلة – ظهرت داعش في منطقة جغرافية شاسعة تعرفها جيداً ، وبالتالي تجيد استثمارها والتحرك فيها بحرية ،ذلك مايقدم لها عوناً ميدانياً ولوجستياً مكّنها من اقامة الكمائن المتنقلة ورسم خطوات القتال وفق بيئتها ، ولما كانت تلك الجغرافية متعددة التضاريس بين سهول ومرتفعات ومزارع ومدن وصحارى شاسعة ،فقد تنوعت فيها كذلك اساليب القتال وتعددت أشكالها .
– 3- الدعم البشري واللوجستي – لم يسبق لتنظيم مسلح أن حصل على مستويات من الدعم المباشر وغير المباشر بمثل ماحصل عليه داعش ، بدءاً من الاعلام الذي قدم داعش بصفته القوة التي لاتقهر والروح “الجهادية” التي لايمكن الوقوف بوجهها ، في وقت سلط الاعلام ذاته حملات منسقة ومركّزة لاظهار الجهات العراقية المتصدية ، بأسوأ صورة معنوياً وقتالياً ،ثم سيل الانتحاريين والانغماسين القادم من العشرات من البلدان القريبة والبعيدة .
كان ” الإطمئنان” الداعشي ومن اعتقد بنجاحها يبدو واقعياً ومضموناً – ان لم يكن بالاستيلاء على كل العراق ،فأقله التمركز في مناطق بعينها “أرض التمكين” التي ستكون بمثابة القاعدة الاستراتيجية لوثبات قادمة ، لكن داعش ارتكبت أخطاء قاتلة جعلت هزيمتها ممكنة- بل حتمية – فكيف حدث ذلك ؟؟ وكيف استغل الحشد تلك الأخطاء الداعشية ؟
– ماهي عوامل المراهنة في مشروع التصدي ؟
– كيف تجاوز الحشد معوقات السياسة ؟؟
– مندمجون أم مستقلون ؟ أيهما أجدى ؟
– كيف تجيد اللعبة وسط تعدد اللاعبين ؟؟ .
قدم الحشد في سلوكياته القتالية ، نمطاً مختلفاً من الأخلاقيات التي قلما شهدتها الحروب ، ماجعل الناس تقارن بين قوسة داعش ووحشيتها ، وبين نبل الحشد وانسانيته ، فمالت الكفة تدريجيا لصالح الحشد اجتماعياً وقتالياً ، رغم حملات التشويه المكثفة التي شنتها سلاسل من وسائل الاعلام بكل أنواعها ، فانتقل الصراع من ميدانية القتالية التي انتصر فيها الحشد ، الى الميادين الاعلامية ، التي فوجيء الحشد بكثرتها وتنوعها ووسائل الاستهداف التي استخدمتها.
لكن الحشد ووسائله الاعلامية ،وان بدأت بطيئة ومتأخرة ، الا انها استوحت مراحل المواجهة العسكرية الثلاث ،ونقلت تجريتها الة معركتها الاعلامية ، لتسير وفق مراحل ثلاث ، ضمتها مايمكن تسميته ( الصبر الاستراتيجي ) وهي :
– الدفاع الاعلامي :في هذه المرحلة ،حاول الاعلام المقاوم ،تركيز نقاط دفاع ، تقف وان بشكل نسبي ،أما سيل الاعلام المعادي المروج للزيف والأكاذيب طبقا لاستراتيجية غوبلز في جعل الاكذوبة المصنوعة ،حقيقة مزروعة ، فتمكن الاعلام المقاوم نسبياً ، من المحافظة على نقاط الارتكاز تلك .
– التوازن الاعلامي : لقد ارتكبت وسائل الاعلام المعادية ، ذات الاخطاء التي ارتكبتها داعش – الثقة الزائدة والاندفاع الطائش – متوقعة ان الأكاذيب ستمضي في التأثير على المجتمع ، فيما عملت نقاط الارتكاز المقاوم ، بهدوء نسبي ودون ان تقع في حبائل واساليب الاعلام المعادي في ضجيجها المرتتفع وأساليبها الفجّة ،فتركت الاعلام المعادي ينهك نفسه ويلف عمله بخيوط أكاذيبه .
بدا الاعلام المعادي منتشياً بما حققه ، فيما بقي الاعلام المقاوم يراقب ويجمع ويهيء .
– التوازن الاستراتيجي : حقق الاعلام المقاوم هذه المرحلة ،بمجموعة من النقاط المركّزة التي اعتمدت على كشف سلسلة من الأكاذيب التي اطقلها الاعلام المعادي ، ومن ثم كشف أهدافها ومقدار ماتحمله من خبث وتحريض .
– بعد سلسلة التجاوزات التي رافقت التظاهرات ، والجرائم التي ارتكبتها – بما فيها تكرار حرق ومهاجمة مقرات الحشد -وتحذير المرجعية مما يحاك للعراق ، وبعد التركيز على استهداف الحشد بشكل لم يستطع الاعلام المعادي تحقيق نجاح في ايجاد تبريرات له ، رغم لجوئه الى مجموعة من التكتيكات الاعلامية ،كإظهار ان المستهدف ليس الحشد ، انما القيادات الفاسدة والميلشيات ، وارتباطهم بايران – الخ ، فتلاشت تلك التكتيكات تدريجيا وفقدت زخماً لايستهان به .
استقالة حكومة عبد المهدي ،ظهرت بكونها انتصاراً ، للقوى المناهضة ، وان بامكانها المضي في خططها الرامية لتحجيم الحشد وقص اجنحته ، ليسهل الانقضاض عليه في مراحل لاحقة ، لكن الجموع التي شاركت في تشييع الشهيد المهندس،كذلك الجموع الكثيفة التي لبت دعوة فصائل الحشد للتظاهر، فاجأت الاعلام المعادي واربكته ، اذ ونتيجة للضجيج الذي امتلأت به مواقع التواصل ،لم يكون متوقعاً ان الحشد مازال يتمتع بكل هذا التأييد .
استطاعت القوى السياسية المؤيدة للحشد ، ان تمتص كل ذلك الزخم ،دون ان تفقد صبرها ،فوافقت على الكاظمي ، الذي جاء باعتباره المنقذ والسائر بوجه التغيير ،وعلى رأسه محاصرة الحشد والتضييق عليه .
اعتمد الكاظمي ومستشاروه ، على انشاء مجموعات من الصفحات المرتبطة والمروجة له ، لكنها فقيرة في محتواها ، بدائية في أساليبها ، ما أعاد للأذهان الاعلام الذي كان يروج لصدام حسين .
المؤشرات تذهب الى ان الكاظمي ، لن يغامر يخوض مواجهة عسكرية ضد الحشد ، فهو يدرك خطورة ذلك في كونها مغامرة ليست مضمونة النتائج ،خاصة في ظرف تتراجع فيه أمريكا ،وهي مقبلة على تحولات قد لاتكون مهتمة بالكاظمي وحكومته ،كما كانت عليه ادارة ترامب .
لذا الأرجح ان يكتفي الكاظمي فيما هو عليه ،دون خطوات أخرى تزيد في التوتر ، لكن ينبغي عدم استبعاد احتمالات ان يرتكب الكاظمي تلك المغامرة ،بدفع وتحريض من مستشاريه ،والقوى المحيطة به ، وكلها تريد تصفية حساباتها مع الحشد ،خاصة على أبواب الانتخابات ،في محاولة لبعثرة او تشتيت حاضنته الاجتماعية .
ــــــــــ