الخميس - 28 مارس 2024
منذ 3 سنوات
الخميس - 28 مارس 2024


د.أمل الأسدي ||

(1)

لم يرغبوا بإيقاظها اليوم كما أشار عليهم خالهم، علّها تستغرق في النوم كي ترتاح قليلا، الحزن كان يلفح جدارن المنزل، صمتٌ مخيف يضربه،عيونٌ تترقب، وأنفاس تتسارع، تهرب من القادم!!
فجأة ظهرت بكامل هيبتها، عباءتها حزينة كأيامها، صامتة، كل كلماتها نظرات! وإذا صمتت الأم صمت الأبناء وصمتت الحياة في المنزل!
قال لها أخوها:
– أم عباس، ذاهبة الی الكاظمية؟
ـ لا، سأذهب الی(أبو غريب) اليوم مواجهة عامة
ـ ستتركين الـ(السبوتة)؟
ـ هو يدري بحالي، سيعذرني فهو كريم ابن كرام
هنا لا يعلم بحالها إلا الله، روحها تُطحن، وصمتها ينخر فؤادها، روحها معلَّقة بأبواب الضريح، وقلبها يجرّها الی حيث ابنها!!
طوال الطريق وهي تفكر، هل السجن والظلمات ضريبة مفروضة علی آل محمد وعلی محبي آل محمد؟
لماذا يلاحقون أنفاسنا؟
لماذا يستكثرون الحياة علينا؟
تتساءل وتحرق الأسئلة، وربما تحرقها هذه الأسئلةُ!
(2)
كانت العوائل تتجمع عند باب سجن (أبو غريب)
ازدحام شديد، الأمهات يفترشن التراب، الجو كان حارا وعاصفا مغبرا، بحثت عن ظل تأوي إليه، قعدت قرب إمرأة كانت جالسة مع فتاة تنتظر إذن الدخول أيضا، كانت الفتاة تتمتم وتدعو،وحين جلست قربهم سكتت! فقالت لها:
– هل أنهض من هنا؟أخشی أني أزعجتكما
ـ لا، يا خالة علی العكس
ـ إذن لماذا تركت الدعاء؟ استمري، فكلنا متوجعون
فبدأت الفتاة تدعو ثم شرعت بقراءة زيارة الجوادين، كانت تحفظ الأدعية عن ظهر قلب، وبلسان فصيح، وبصوت حنين!
تقرأ وأم عباس تبكي، دموعها ابتلعت رؤيتها، لسانها يلهج معتذرا:
-اعذرني يابو طلبة، اليوم ما جيتك، وانت تدري بالحال!
تبكي والازدحام يزداد، هناك خرج الضابط من البوابة وهو يصرخ:همج، شراگوة ليش متجمعين هين يم البوابة!!
وسارع حرس البوابة يضربوننا بعصيهم، قالوا هذه آوامر ضابط السجن الجديد، نقيب محمد الدوري!
كم تبدو الحياة تافهة ولامعنی لها، وكم تصير الأنفاس حملا ثقيلا علی الإنسان حين يهان وتُسفح كرامته!!
أم عباس ركضت نحو الرجل المسن الذي سقط وهو يحاول الفرار من الجنود، شكله يبكي الملائكة ، رفع (دشداشته) المغبرة قليلا ليمسح دماء ركبتيه!!
ـ أم عباس :حجي، اخذ هذي الچفية شد رجلك
ـ بوية، وجرح گلبي شلون اشدنه
حبس دمعته وعض علی أوجاعه ونظر إلی السماء!
(3)
دخلنا بعد ساعة الی السجن،أنا والفتاة المؤمنة وأمها، في نهاية الممر الطويل أوقفونا، أمرونا أن ننتظر، لا أدري لماذا؟ لكنّ نظرات الجنود والضابط كانت مريبة!
أكلوا الفتاة بعيونهم، فأوجست خيفة، وأحسست بنواياهم، قالوا لنا بعد ان استفهموا عن زيارتنا، أنهم يستطيعون إخراج ولدينا الی غرفة خارج قاعات الزيارة لنراهم بعيدا عن الضوضاء والازدحام،طلبوا مني أن أذهب ومعي أم الفتاة، بينما تبقی الفتاة تنتظرنا هنا!!
نفضت عباءتي ووضعت البنت أمامي وقلت لهم:احنا متعلمين علی الازدحام، مشكورين!
خرجنا وأكملنا الطريق الی القسم الانفرادي،وكلتانا تمضغ الظلم، وتتحسر علی أيام حملها وتربيتها وشقائها!!
فهنا نربي وتذهب أرواح أولادنا سدی!!
وصلنا، ذهبت إلی زنزانة عباس، تلك القبر الصغير الملعون، الذي لايصلح حتی للكلاب!!
أين عباس؟
غير موجود؟ اسم الله يمة
وين ابني؟
أصرخ ولا أحد يسمعني، فأصوات العوائل ونحيبهم يملأ القاعة!!
ركضت الی الضابط، يمة، وين ابني؟
فقال لي بقلب بارد: بالتنفيذ
هناك!!
ذهبت مسرعة، تصدع رأسي فصوت التلفاز الموضوع أمام القاعات كان عاليا جدا، وكأنه عرس ، فموسيقی (تلفزيون الشباب) الغجرية تلوك أعمارنا!!
(4)
أم عباس، نخلة تهدل سعفها، تبحث عن ابنها، ذلك الوقور، المذنب، ذنبه أنه جمع عددا من الشباب الخيرين وصار يذهب كل خميس الی كربلاء، وفي ذلك الوقت إذا اجتمع خمسة أشخاص عدّوه تجمعا محظورا يخطط لشيء ما!!
في زاوية الغرفة كان عباس واقفا يصلي، جلست أمه أمام القضبان تنتظره، أتم صلاته، جلس قبالة أمه:
– يمة، لاتبچين اذكري زينب
يمة، زارني في الرؤيا الإمام الكاظم، قال لي: عباس، أنت علی خير، أنت ستكون بجوارنا، هل ترضی؟ الخيار لك، تمضي وتأتي إلينا وأنت تشاركنا المظلومية أم تبقی في هذه الحياة؟
قلتُ له: نور عيني أنت، فداء لك، أنا معكم
فقال لي: استعد بعد غد، وقل لأمك عودي إلی موعدك، لا تتغيبي!
مازال عباس يتكلم، وماوزالت أمه جاحظة، كأنها لوح خشبي، صامتة لم تتفوه، لا أدري أين ذهبت روحها؟
ولا أدري كيف تتحرك هذه الأنفاس ؟
حاول عباس، أن يجعلها تتكلم، أمسك برأسها من خلف القضبان ومن دون فائدة!!
رفعت يدها وبأسنانها فتحت (العلگ الأخضر) طوقت به معصم ابنها، واستندنت علی كفيها ونهضت!
توجهت إلی الكاظمية، وصلت باب المراد، وقفت أمام القباب ثم قالت:
أبو طلبة، أنا ما غايبة،سجلني، ترة اني اجيت
وابني وروحي كلها فدوة الكم!!