الجمعة - 29 مارس 2024

جدلية العصمة والنبوة في آدم (ع)

منذ 3 سنوات
الجمعة - 29 مارس 2024


رياض البغدادي ||

• تمهيد
من أشرف علل ارسال الانبياء عليهم السلام ، هو ان يكونوا قدوة ، تقتدي بهم أممهم للسير الى الله تعالى وتحصيل مرضاته ، فالنبي اسوة حسنة يقدمها الله تعالى للبشر ليتبعوه ويقلدوه .. قال تعالى في سورة الاحزاب ـ الآية 21 :” لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ” ،وقال تعالى بأن القصص التي في القرآن هي عبرة نعتبر بها ولا تكون مجرد أدب قصصي نستمتع بقراءته ،ففي سورة يوسف ـ الآية 111:” لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ”.
‎تُرى .. ما الذي يمكن ان يكون عليه آدم عليه السلام ليصلح أن يكون محلاً للاقتداء به ؟
‎لم يكشف لنا القرآن الكريم عن حياة آدم عليه السلام ، الا بالمقدار الذي يصلح ان يكون فيه أسوة ، كما هي طبيعة القصص القرآني ، ولهذا لم نستطع ان نجزم بالكثير مما يتعلق بحياة آدم ، فاختلف المفسرون في حقيقة كونه نبيَّاً أو عبداً صالحاً ، بسبب ما نسب له من اخطاء في صراعه مع الشيطان ، والتي تصيب العصمة بمقتل ، بالرغم من التبريرات التى ساقها المفسرون لإثبات عصمته عليه السلام.
‎وهذا البحث المتواضع المختصر هو محاولة للتوفيق بين ناكري نبوَّته ومثبتيها ، للخروج برأي يجمعهم جميعاً ، او على الاقل ،يكون حلاً وسطاً بينهم ،ويكون سبباً لإنهاء الاشكالات التي يُبرزها كلا الطرفين ..
أهمية البحث
رُبّ سائل يسأل – ماالذي يهمنا في قضية اثبات نبوَّة آدم عليه السلام ؟
نقول : لكي نساويه بباقي الانبياء الذين أمرنا الله تعالى بأن لا نفرق بينهم ، ونُقبل عليه جلَّ جلاله بهذه العقيدة التي سيسألنا عنها حتماً ، فعقيدتنا في الأنبياء هي جزء من العقيدة التي نحن عنها مسؤولون ، وهي التصديق والإذعان لكل ما أورده القرآن الكريم بشأن الأنبياء والرسل ، فمازال لآدم ذكر في القرآن ، اذن لابد من تصديق ماورد بشأنه فيه .. وفي نصوص الزيارات الصحيحة الواردة عن المعصومين عليهم السلام عندما نزور الامام الحسين (ع) نقول ” السلام عليك يا وارث آدمَ صفوةِ الله” ، ألسنا مسؤولين عن قولنا هذه العبارة ؟ بالتأكيد نعم ، عملاً بالقاعدة القرآنية ” مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (ق:١٨)”.
إذن فلا مجال للمسلم إلا أن تكون له عقيدة ثابتة واضحة في شخصية آدم (ع).
مناقشة
وعَوْداً على بدء، أقول : ما الذي يمكن ان يكون عليه آدم عليه السلام ، ليصلح ان يكون قدوة لأهل عصره الذين عاصروا نبوَّته وتكون قصته عبرة للبشر الى يوم يبعثون ؟
فمما لا شك فيه ان آدم قدوة لجميع الأمم الى يوم يُبعثون ، سواء كان نبياً أو عبداً صالحاً ، لكن كيف هذا ؟ وماذا يستلزم لكي يصح قولنا في كونه قدوة ؟
يستلزم ان تكون هناك اوامر من الله تعالى ، كي تكون طبيعة تفاعل آدم معها سلباً وايجاباً عبرة نعتبر بها في حياتنا .
هل كانت هناك أوامرُ ونواهٍ إلهية موجهة الى آدم ؟ بالتأكيد نعم ، كان عليه :
اولاً – التزام العهد بعداوة الشيطان ، قال تعالى:” أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ” .
ثانياً – الالتزام بعدم الاقتراب من الشجرة التي حددها الله له فضلاً عن الاكل منها ، قال تعالى: ” وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ”.
ماذا فعل آدم امام تلك الأوامر والنواهي ، وكيف تصرف بشأنها ؟
الجواب : أزلَّه الشيطان ، واستطاع ان يحمله على نقض عهده لله ، قال تعالى ” فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ”. وهذا يعني ان آدم وبحسب النص القرآني :
اولاً – عصى الله ، قال تعالى : ” … وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ” (طه١٢١).
ثانيا – لم يكن له عزم على الوفاء بالعهد ، قال تعالى “وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا”(طه١١٥).
ثالثاً (نسي) أي ترك تعهداته امام الله كما في الآية ١١٥ طه.
العبرة والدرس
ماذا فعل آدم لإصلاح ماتضرر من علاقته بالله تعالى ؟
هنا بيت القصيد .. وهنا الدرس الإلهي الذي يقدمه الله للبشرية ، وسوف لا يتكرر هذا الدرس مع نبيّ آخر ، هنا الأسوة الحسنة التي اراد الله تعالى من الخلق ان يعملوا بها للآلاف من السنين القادمة من عمر البشرية ..
الذي فعله العبد الصالح أبونا آدم ، هو الندم والبكاء والانقطاع الى الله ، لان آدم تيقن ان علاقته بالله تضررت ولابد من اصلاحها ، لابد من العودة الى الله والالتزام بطاعته ، لابد ان يجعل قضية الحصول على القبول والرضا ، هي كل ما يريده من هذه الدنيا .
فصار ندم آدم درساً لكل البشر ، بأن يكون رضا الله منتهى همهم وآخر رجائهم ، ولابد من ان يرد آدم الكيد الى نحر عدوه ، ويُعلِّم البشرية كيف الرجوع اذا غرها الشيطان ، او سعى الى حرفها عن مسارها ، لابد ان تتعلم البشرية كيف يمكن صنع الخير من عمق رحم الشر ، لابد من ان يتعلم البشر ، ان اعظم الذنوب لا تستوجب تسرب اليأس من عودة القبول والرضا …
فخط آدم للبشر قاعدة لاستثمار ألاعيب الشيطان وغوايته ، بشكل إيجابي يؤدي الى القرب من الله اكثر والبعد عن الشيطان لعنه الله …
آليات تحقيق مهمة آ دم
ولكي تتم هذه المهمة وهذه الرسالة وتتعلم البشرية الدرس ، لابد من حصول الخطأ …
إذن خطأ آدم وتوبته هو الدرس ، وهي المهمة والرسالة التي حملها آدم لأمته ، فلا تطالبني بعد ذلك إثبات عصمته من الخطأ ، الذي هو اصل رسالته التي حققها ، بينما مهمة نبينا محمد (ص) غير ذلك ومختلف عنه جوهرياً ، وهي مهمة تستوجب عصمة عالية المرتبة، بل هي عصمة تمثل الحد الأعلى منها .
لابد ان نعلم ان الأنبياء يُبعثون لتحقيق شيء واصلاح خلل طارئ حدث في مسار البشرية، يقول الشهيد محمد باقر الصدر (رض) :
” هناك نقاط من الضعف تطرأ بين حين وحين في بعض الأزمنة والأمكنة في بعض المجتمعات البشرية . تطرأ بعض الأمراض المعينة من الناحية الفكرية والروحية والأخلاقية ، وهذه الأمراض تستفحل بموجب شروط معينة موضوعية خاصة ، وتحتاج هذه الأمراض إلى نوع من العلاج يترفق المولى سبحانه وتعالى في إنزال وحي معين لأجل بيانه . وبطبيعة الحال سوف تكون الوصفة المقدمة من قبل هذه الرسالة لعلاج هذا المرض قائمة على أساس هذا الحال الاستثنائي المنحرف الذي يعيشه إنسان عصر هذه النبوة ، ومن المنطقي والمعقول أن لا تصح وصفة من هذا القبيل على كل زمان أو مكان “.
هذا يعني أن تصميم رسالة آدم وطبيعة دعوته وآليات إتمامها بنجاح تتطلب اموراً تتوافق وأداء هذه المهمة ، يقول الشهيد محمد باقر الصدر (رض) ” فحينما تكون النبوة في طبيعة تركيبها قد جاءت لعلاج مرض معين طارئ في حياة الإنسان ، وتكون في طبيعة رسالتها قد صممت وفق هذه الحاجة ، فحينما تكون هذه النبوة هكذا وتدخل شوط عملها وجهادها وتحارب وتكافح في سبيل استئصال هذا المرض الاستثنائی ، بعد هذا تكون النبوة قد استنفدت أغراضها ، لأنها جاءت لمعركة جزئية محددة بظروف زمانية ومكانية خاصة ، وهذه المعركة انتهت بانقضاء هذه الظروف” .
ومن هذا الكلام الدقيق نعرف ان مهمة آدم لها ظروفها الخاصة فلا يمكن ان نحاسب آدم على أخطاء هي من صلب رسالته ومهمته .
العصمة بعد خطأ آدم
من هذا كله لابد ان نعترف ان العصمة التي نؤمن بها للانبياء والائمة عليهم السلام ليست على درجة واحدة من الثبات والقوة والبناء ، بل هي متفاوتة بين آدم ( على فرض أنه نبي) وجميع الانبياء الآخرين ، ذلك لان مهمة الانبياء كانت تتعامل مع اخطاء البشر بشكل مباشر ، فلا يمكن ان يبعث الله تعالى لهم أنبياء تنصحهم وتنبههم الى أخطائهم التي هم يعرفونها ، ويعرفون طريق التخلص منها ، وبالوقت نفسه هم مكبلون أنفسَهم بشراكها.
بينما مهمة آدم، كانت تعليم البشرية كيف تسير لإصلاح الخطأ ، فلابد من أن يحدث الخطأ الذي لم تكن البشرية قد عرفته بعد ، ولم تعرف من يقف خلفه ويدفعها اليه ..
إذن فالعبرة هي ان يوصل النبي رسالته ، ورسالة آدم هي خلق نزعة العودة الى الله ، كيف تتم عندما يبتعد العبد ، لان المهمة كلها تكمن فيها ..
كيف تعرف انك بعيد ؟
هذه قضية لا تتحقق ولا يتاح لابن آدم الذي قتل اخاه ، معرفتها، إن لم يرَ أباه وهو يوصل ليله بنهاره بالبكاء الذي اذهب بريق عينيه ونار الندم التي احرقت قلبه والحياء والخجل أنكس رأسه ..
فلا يطالبني أحد ، (أنا المعتقد بوجوب العصمة للانبياء ) ان أثبت عصمة آدم ، فالمستوى والدرجة التي كانت فيها عصمة آدم ، مساوية لمستوى ورع عبد صالح في امة محمد (ص) ، يقول الشهيد الصدر:”النبوات تختلف من حيث السعة والضيق ، باختلاف طبيعة ، النبي نفسه ، باعتبار مستوى كفاءة القيادة الفكرية والعملية في شخص النبي ، فمحدودية الكفاءة القيادية في المجالين الفكري والعملي ، يؤثر في تحديد الرسالة التي يحملها النبي ، لان كل إنسان على الأرض ، لا يمكن أن يحمل رسالة يحارب ويدافع عنها حقيقة ، إلا إذا كان مستوعباً لها استيعابا کاملا شاملا ، وهذا الاستيعاب الكامل الشامل ، يتطلب من هذا الداعية أن يكون على مستوى هذه الرسالة. ومن الواضح أن الأنبياء كغير الأنبياء يتفاوتون في درجات تلقيهم للمعارف الإلهية عن طريق الوحي من قبل الله سبحانه وتعالى ولهذا كانت بعض الرسالات محدودة بحكم محدودية قابلية الأنبياء أنفسهم ، حيث إن هذا النبي ليس مؤهلاً لان يحمل هموم البشرية على الإطلاق وفي كل زمان ومكان ، بل هو مهيأ لان يحمل هموم عصره فقط ، أو هموم مدينته فقط ، أو هموم قبيلته فقط “.
لذلك ،نحن اتباع أهل البيت ، نقول ان أئمتنا افضل من أنبياء بني اسرائيل ، بحسب مقاييسنا الحالية ، بعد ان تخطت البشرية مسيرة ١٢٠ الف نبي او يزيدون .
ترى لماذا ؟ هل لاننا نحب أئمتنا ؟ أم ان القضية متعلقة بالمستوى المطلوب لنجاح مهامهم ؟
فمهمة الحسين (ع) كانت تتطلب ان يكون افضل من نوح ، بل وافضل من ابراهيم أبي الأنبياء ، فكان هو افضل ، كان ممكناً أن يظهر الحسين (ع) ايام ادريس (ع) ، لكن المهمة ايام ادريس ما تستأهل ان يظهر الحسين بمقوماته الايمانية وعصمته وصفاته القيادية هذه لإتمامها ، كان ممكن ان يظهر محمد (ص) بدل آدم ، لكن معرفة محمد (ص) ، ودرجته ، وعلو مقامه لايمكن ان تكون مناسبة لتكون سيرته مع الشيطان بالكيفية التي كانت عليها سيرة العبد الصالح آدم عليه السلام ..
والله العالم ..وهو ولي التوفيق