الجمعة - 29 مارس 2024
منذ 3 سنوات
الجمعة - 29 مارس 2024


د.أمل الأسدي ||

(1)
التقيتُه في موكب (المحبة) في السيدية، كان الشباب يحاولون أن يستفهموا منه ماذا به؟ لماذا يبكي؟ وهو بهيبته الجنوبية و(عگاله) الأنيق يرفع عينيه الی السماء
ويقول : راحوا وعافوني!!
حاولت أن أفهم منه ، من هولاء الذين تركوه؟ وما حكايته؟
قلت له: الی أين أنت ذاهب؟
قال: مثلكم… ذاهب إلی الحبيب!!
سأشكو له غربتي، لفظتني السكينة!! لماذا يتركني لبانًا هيّنا في فم الليل؟
عافوني ومشوا ياناس!!
كانت حسرته كفيلة بأن تبكي حتی ظلالنا الماشية الی كربلاء!!
تلك الشوارع صرختها إسرافيلية العبرة!!
يمشي وتجاعيد الزمن أخفت نظرته، عيناه غارت تحت أجفانه، خفتُ عليه أن يهلك، رافقته الی نهاية الوجع!!
وصلنا ، وقف أمام القباب، أطاح (عگاله) وأرخی كتفيه!!
قال وهو يواصل المطر المحموم: جئتك، أشاركك لوعتك، سيدي ، وحدكَ أنت تجبر القلوب الفاقدة!!
چا انت تقبل؟ راحوا عني ومشوا؟ ياهو اليلمني؟
ثم شهق،وسقط أرضا ،حلّقت الناس حوله، وكلهم يبكون، يبدو أن الفقد هويتهم!
كانت روحه تتأهب ، وغرغرة الموت تعلن ولادتها!!
قال لي بصوت متقطع:
راحوا عني، مشوا، وانه رايحلهم!!
قلت له : ياحاج، من أنت؟ من أهلك؟
مدّ يده في جيبه، استخرج صورةً، ثم فارق الآهات!!
كلنا حدّقنا في الصورة!!
كلنا عرفنا الذين(مشوا عنه!!)
كلنا رأينا صورة ( أبو مهدي)!!!
(2)
أقسی موقف تمر به هو أن تكون مفتاحا للألم، كان لابد لي أن أتصل بأهله وأخبرهم بأن الحاج قد توفي!
الرقم المدسوس في جيب أحزانه يحمل اسم (زينب)، طلبت الرقم فردت عليّ امرأة، وبمجرد أن سمعت كلماتي المرتجفة ، قالت: مات أبي، مات ، أليس كذلك؟ فأجبتها بـ: البقاء في حياتكم أختي!
لم يتأخروا عنه، القلوب الوالهة لا تتأخر !! الحاج دُفن حيث دُفن أحبته، ماذا عساني أقول؟! أربعة قبور!!
ثلاثة أولاد وأبوهم الرابع!! من يربط علی هذه القلوب؟ وكيف لهذه الأم أن تتحدث هكذا؟
(فدوة للحسين)!! من وراء هذه الرفعة يا الله؟
أما ابنته زينب فقالت:كنا نعرف أنه لن يبقی طويلا!!
وجع الفراق علی إخوتي الثلاثة طحنه طحنا، أخي الكبير( محمد) حصدته الطائفية لنجد جثته مرمية في الأعظمية !!
أخواي الآخران( أمير وهاشم) اُستشهدا في تحرير الموصل
بقينا نعيش كخيمة بلا أوتاد!!
الأمر الوحيد الذي كان يمد أبي بالأوكسجين، هو تواصل أبي مهدي معه، كل جمعة يتصل به، ويزوره كلما سنحت له الفرصة، كان يقول لأبي: الحياة فانية، وكلنا سنمضي، إنما الفرق في الكيفية، في الوسيلة، هناك وسائل توصلك الی الربيع الأخروي، هناك طرق توصلك الی تخوم العرش، حيث الراحة الأبدية في جوار من نحب!
إذن علينا أن نبحث عن وسيلة توصلنا!!
هكذا كان والدي يقتات علی صوت أبي مهدي، ومنذ تسعة شهور وهو يتأرجح بين الموت والحياة!!
منذ رحيله اتخذ قرارا بالالتحاق به!!
أنهت زينب حديثها وأنا أنصت بقلبي وأتأمل صنع الله في عباده،كيف يجتبي وكيف يبني وكيف يعبد طريقه!!
مازلت أنصت إليها حتی أيقظني الشباب: انهض، رُفع أذان الفجر، فتحت عينيّ،فوجدت الحاج جالسا يصلي!!
ومازال دمعه يجري، ومازلنا في موكب المحبة في السيدية!!