الجمعة - 29 مارس 2024
منذ 3 سنوات
الجمعة - 29 مارس 2024


د. عطور الموسوي ||


الى أجيالنا التي لا تعرف حقيقة (الزمن الجميل) اليكم صورة من جماله!!
1980عاما حزينا كئيبا، إذ اندلعت الحرب العراقية الإيرانية وبالتحديد يوم 22 أيلول، وبدأت غارات جوية متبادلة وصفارات الإنذار ترعب الجميع، نحن جيل لم نشهد حينها أي حرب، وإذا بها فاتحة شؤم لسلسلة حروب دامية تميز بها حكم البعث الأسود وخاصة بعد أن وصل صدام الى سدة الحكم.
الكهرباء بدأت تنقطع لساعات وخاصة أثناء الغارة الجوية .. الشتاء قد حل ومادة النفط الأبيض وقود المدفآت بدأ يشح بسبب قصف الطائرات لمصفى الدورة جنوب غرب بغداد حيث ظلت النيران مشتعلة لأيام وغطت السحب السوداء سماء بغداد الحبيبة، بعد أن كان الوقود متوفرا وعربات بيعه التي يجرها الحصان وقرع ناقوسها المعدني المميز وهي تجوب الأزقة من بواكير الصباح وحتى المساء .. اليوم صار مألوفا طوابير الناس رجالا ونساءا تقف ساعات طوال لتحظى بحصة وقود من صهاريج جوالة.
نعم تورط صدام بهذه الحرب ولم يكن يتوقع أن يستمر أتونها مستعرا لسنوات ثمان.. ..ومنذ أيامها الأولى صرنا نرى التوابيت الملفوفة بالعلم العراقي تشق طريقها الى مقبرة الغري في النجف الأشرف..وانتشرت لافتات النعي للشباب الغض وتزايد عدد الثكالى من الأمهات ومن ترملت من النساء وتيتم من الأطفال ..
سرادق مجالس العزاء تكرر مشاهدتها في أزّقة الأحياء الشعبية لبغداد وصار مألوفا ارتداء السواد وحتى للأطفال لفقد الأحبة، الصمت المرير سيد الموقف والغصة في القلوب..وقصص موجعة لموت شباباً في تلك الدوامة المحرقة التي كلما مرت سنوات الحرب ازدادت نهما لدمائهم .. الى جانب هذا أعدادا غير معلومة من المفقودين والأسرى ولوعة الآباء والأمهات وهم يودعون أولادهم اليها مرغمين فالاعدام رميا بالرصاص مصير كل فارّ منها، حيث يأمر المسؤول البعث أهل الجندي الفار وأهالي المنطقة بالتجمع عند ساحة غالبا ما تكون قرب المنظمة الحزبية، ويربط الفتى معصب العينين وموثوق اليدين الى ظهره على عمود شاخص، ومن ثم يرمى بالرصاص من قبل كتيبة الاعدام، بعدها تسلم جثته الى أهله ويتوجب عليهم دفع مبلغ الرصاصات التي أزهقت روح ولدهم!
في تلك الظروف الحالكة كان تلفزيون العراق بقناته الرسمية الوحيدة يبث أناشيد الحرب على مدار الساعة وينقل مشاهد من دخول فيالق الجيش العراقي مدن الحدود وهم يعيثون في البيوت الآمنة ..نعم كانت اعتداءات واضحة على الأبرياء من المدنيين ولم يكن قتال جيش مقابل جيش كما هي أعراف الحرب..
سادت مظاهر العسكرة في المجتمع ووجه كل بعثي بارتداء الزي العسكري رجلا كان أو امرأة .. بل حتى الأطفال الذين كانوا ينعتونهم بالطلائع والفتيان أو ما ينعتونهم بالأشبال !! استخدمت السلطة الاعلام وسيلة ناجحة لتبييض وجهها القاتم عبر تحريف الحقائق ومنها بيانات الحرب الكاذبة .. حيث اختير بعض المذيعين لإذاعة تلك البيانات التي يكتبها خبراء اعلاميون.. وتفتتح بعبارة الله اكبر ..نبرات كلامهم صارت نذيرا بالشؤم ومزيدا من الموت ..واستمر بث برنامج صور من المعركة بعد كل نشرة أخبار والقتلى في ساحات القتال، وتفنن الاعلام في تغطيتها ودأب على إظهار الجثث المشوهة والمحترقة ،ولقطات مؤلمة يلتقطها لبعض الجنود وهم يطأون بأحذيتهم العسكرية رؤوس بعضها، أو يفترشون الأرض بين عدد منها يلتقطون الصور بابتسامتهم الباهتة فهم على يقين قريبا سيكونون مثلهم.. نعم أريد من ذلك تكريس ثقافة العنف والوحشية وترسيخ العداء والكراهية بين شعبين جارين جمعتهما أواصر الجوار والدين والقيم المشتركة .
كل يوم تظهر نشرة الأخبار والتي تستغرق أغلب وقت البث نائب رئيس الجمهورية طه ياسين الجزراوي وعدد من الرفاق البعثيين وهم يودعون قوافل من الجنود (المتطوعين) إجبارا، فبعد أن أنهك الجيش العراقي من سنوات الحرب النازفة، دعت السلطة الغاشمة الى الخدمة الاحتياط وهذه الخدمة لم يكن لها سابقة في تاريخ العراق، كما دعت الى تشكيل الجيش الشعبي ويفترض أنه مكون من متطوعين ومن عمر 15 فما فوق، وبهذا كانت هجمات من هؤلاء الرفاق على البيوت الآمنة يخطفوا الذكور منها وتحت التهديد، لتجد العوائل أنها قد غدت دون معيل .. يسلم هؤلاء (المتطوعون) قطع السلاح وبدلة عسكرية ويساقون الى الجبهات ليعودوا بعد أيام في نعوش يلفها العلم العراقي .. نعم كان الشباب الفتي فداءا رخيصا قدمه صدام متباهيا أمام الأعراب بأنه حامي البوابة الشرقية .. يجيبه ملك الحجاز من آل سعود: “منا المال ومنك الرجال” ..ولتلتاع الأمهات وهي ترى فلذات الأكباد تساق الى اللحود دون أن يكون لها في هذه الحرب الرعناء ناقة أو جمل ..
وجالت سيارات عسكرية تقل أسرى حرب في شوارع وأزقة بغداد وهم في أسوء مايكون عليه انسان عراة في شتائنا القارص الا من بعض مايسترهم يعانون الجوع والعطش ووجوهم تعبر عن غربة واستغراب و خوف وهلع .. ثمة من يشجع الناس لرميهم بالحجارة أو البصاق عليهم وليحث الصغار للركض خلف السيارات صارخين بأسوء الألفاظ !! ماذا دهانا !! أي ترد وانحطاط يريده هؤلاء المجرمون منا !! أيعقل أن تنتشر هكذا ممارسات وبالسرعة هذه؟ والأمّر من هذا هو الخوف من التعبير عن أي رفض أو استياء .. حقا انه زمن الخضوع والسكوت..وتهاوي القيم والمثل الانسانية .. الكل يتواصى بالحذرمن ممنوعات قد اتسع عددها في قاموس البعث ولم يعرف المواطن أيها تغضب السلطة الجائرة وتعتقله ليغّيب وراء الشمس كما كان يهدد أزلامها كل معارض..
22 أيلول 2021