الخميس - 28 مارس 2024

دراسة ـ صناعة الشائعات وتحريف الاتجاهات ـ القسم الأول

منذ 5 سنوات
الخميس - 28 مارس 2024

علي عبد سلمان

الإشـاعة او الشائعة هي الاخبار والاحاديث والمرويات الشفاهية التي يتناقلها افراد المجتمع الواحد دون ان يتحققوا من صحتها . وعلى هذا ، فهي تعتبر من اكثر المعلومات سذاجة طالما انها غير دقيقة وعاجزة عن تحقيق هدفها المطلوب .

وتأسيساً على ذلك ، تعتمد أغلب الدول في الظروف الاعتيادية في تقصي المعلومات الموثوقة المتعلقة بالآخر ، من مصادر مختلفة ولاسيما وسائل الاعلام المختلفة . اما في ظروف الارباك والاجواء الرمادية الممهدة للحروب ، فإن الاشاعات تأخذ في الانتشار وتؤدي في الأخير الى تصعيد هذا الارباك . وفي ظروف كهذه ، يجد المرء نوعين من الاخبار المتضاربة ، فمن جهة ، يجد الاخبار التي تنشرها وسائل الاعلام الوطنية التي يفترض انها صحيحة وموثوقة ، ومن الجهة الاخرى ، هناك الاخبار غير المؤكدة التي يتناقلها الناس .

والاشاعة في السلم لا تختلف عنها في الحرب ، وهي تقوم اساساً على الترويج ومادتها الافتراء والخبر غير الصادق ، واسلوبها المبالغة في عرض الخبر وتضخيم تفاصيله ومسخ حقائقه . وتنتشر الاشاعة ليس لكسب الرأي المحلي / الوطني فقط بل والعالمي ايضاً . وكما يعبـر الخبر عن الحقيقة ويعكس الواقع فإن الاشاعة هي صدى للحالة التي يمر بها المجتمع ، وهي الى حد ما تعبر عنه المخاوف والتوقعات .

والشائعات في أوقات السلم تهدف الى البلبلة ونشر الاكاذيب التي تضعف الروح المعنوية وتنشر القلق وتصدع الجبهة الداخلية ، ومن هنا تبرز مسؤولية المواطن في تحمل المسؤولية لمكافحة الاشاعة عن طريق التسلح بالعلم والمعرفة ومتابعة الحقائق ، كما تبرز ايضاً مسؤولية الاعلام الصادق في ضخ الصحيح من الاخبار لتحصين المواطن ضد الاشاعات وسمومها .

الشائعة لا تعرف هوية مطلقها ، تبدأ بالتنامي فالانتشار ، فتصبح بأهميتها محور اهتمام عام ، وتبلغ الذروة قبل ان تعود فتتراجع وتتفكك الى نيران خامدة كثيراً ما تنطفىء تماماً في الأخير .

الجدير ذكره ، ان كلمة شائعة تستحضر بالنسبة الى العامة ظاهرة غامضة وشبه سحرية يعكسها تحليل المفردات الرائجة . فالشائعة تطير وتزحف وتتعرج وتعدو ، وهذا ما يجعلها على المستوى المادي اشبه بحيوان مباغت وسريع الحركة يتعذر أسره ولا ينتمي الى أي فصيلة معروفة ، اما تأثيرها في البشر فإشبه بالتنويم المغناطيسي وخصوصاً انها تبهر وتغوي وتسحر الالباب وتلهب الحماسة .

اننا رأينا ان هذا المفهوم خاطىء ، فالشائعات أبعد ماتكون عن الغموض بل انها تخضع لمنطق قوي من الممكن تفكيك آلياته . وفي ايامنا هذه بات من السهل تقديم اجابات فضلُى عن الاسئلة الكبيرة التي تثيرها الشائعات :-

من أين تنشأ ؟

كيف تتبلور ؟

لماذا تظهر في وقت ما ، في مجموعة محددة او مكان معين ؟

الى ذلك ، من الممكن تفسير الشائعات :-

ما الذي يجعلها مكروهة ؟

ما القواعد التي تحكم مرسلتها ؟

ما هي المرسلة الخفية التي تتجاوز المضمون الصريح للشائعات ؟

اضف ، من غير الممكن تحليل ظاهرة الشائعات من دون الحديث عن دورها في الحياة اليومية ، فكيف يتفاعل المرء مع الشائعات ، وكيف يستخدمها ، ولأي غايـة ، وما تداعياتهـا المتوقعـة وغيـر المتوقعة ؟

اما السؤال الأخير فهو :- هل يمكن اخماد شائعة ما ؟

لقد اقتصر الأمر حتى اليوم هذا على اجراء تحليل توصيفي او تفسيري للظاهرة ، غير ان الحقائق الاجتماعية تحثنا على الذهاب الى ابعد من ذلك ، وتحديداً الى معالجتها ، فعندما نتعمق في درس مشكلة التحكم بالشائعة نبلغ فعلياً صميم منطقها ، أي ظاهرة تصديقها.

 ترويج الاشاعة

تنتشر الشائعات – رغم افتقارها الى دليل يسندها – عندما تقضي طبيعة ظروف الاوضاع الداخلية المرتبكة للدولة ، الكتمان وحجب المعلومات المهمة . او عندما تكون مصادر المعلومات الاعتيادية غير قادرة على تغطية الاخبار بشكل تام ، اما بحجة عدم توفرها او ان الرقابة لم تصرح بنشرها .

وعندما يتعذر على الناس الحصول على المعلومات من مصادرها الاعتيادية ، فأنهم يلجأون لتأمينها من مصادر اخرى . وفي مثل هذه الحالة تلقى الاشاعة رواجاً كبيراً بأعتبارها المصدر الوحيد للمعلومات .

وتنتشر الشائعات بشكل خاص بين افراد القوات المسلحة ، لأن الضرورة تقضي بعدم اطلاعهم على تفاصيل العمليات العسكرية المقبلة . وعليه ، يتعين على الآخرين والقادة التحوط من الاشاعة ، لانها تقضي على خططهم المرسومة وتمهد الطريق الى تثبيط المعنويات وربما تقود الى الذعر والهزيمة .

قد يكون من المفضل عدم ترويج خبر غير مؤكد عن قضية مهمة . مع ذلك ، ان الجواب يكمن في الحقيقة بأن القضية تهم الشخص الذي يروج للاشاعة . يروجها في حالة واحدة فقط عندما تستجيب لمتطلبات الشخص السامع . فالاشاعة التي تعتمد الشك او الكراهية او تبعث الخوف او الأمل ، ستروج وتعزز بأنفعالات الشخص الراوي . لهذا فعندما تنتشر الشائعات بسرعة فيعني هذا ان الكراهية والخوف اصبحت شائعة بين الناس الذين يروجونها .

ويتبع ذلك ، ان الشائعات تروج حتى من قبل اولئك الافراد الذين لا يصدقونها ، طالما انها توفر فرصة التعبير عن عاطفة كان ينبغي كبتها . فإذا شعر احد افراد المجتمع او مجموعة اجتماعية معينة ، بكراهية ازاء احد افراد حكومته او مؤسسته من يأتمر بأوامره ، فهو بالتعبير المجازي يطعنه من الخلف ، وفي وقت الازمات والظروف المرتبكة ، لا يقدم على القول علانية بأن مرؤسه مستبد وطاغية .

على أي حال ، لنفترض ان هذا الشخص سمع اشاعة بان مرؤسه فاسد ادارياً وغير نزيه ولا يؤتمن على احوال المؤسسة ، واصبح هذا الأمر يؤثر على سمعته المهنية والسلوكية وربما ستكون السبب في اقالته من الخدمة ، من الجائز عدم توفر دليل يسند الاشاعة ، ولكن ما الذي سيحدث ؟

ان هذا الشخص المعني سينقل الاشاعة ، لانه لايشعر بأقتراف أي ذنب وانه غير مسؤول عن الرواية ، ان كل ما قام به هو مجرد ترديد ما يقوله محيطه المهني / الاجتماعي ، وعلى الرغم من ذلك ، فأن ترويجه للاشاعة قد يحصل على قدر من القناعة النفسية وربما التخفيف عن مشاعره ازاء قضية او عدة قضايا في مؤسسته .

ان ترويج اشاعة كون رئيس المؤسسة غير نزيه ، ربما تشير الى اكثر من كراهية محسوسة اتجاهه . وقد تعني بأن الشخص / الموظف يتهم مرؤسه بهذا السلوك الشائن لانه يود القيام بنفس الشيء الا انه لا يجرأ على ذلك ، بهذا ينقل الاشاعة الى الآخرين ضمن محيطه الوظيفي مع علمه بخيبة امله .

يطلق على هذا النوع من الاشاعات ، بالاشاعات العدائية او ادامة الاسفين . وعند نشرها يتخلص ناقلها من بعض شعور العداء الكامن في نفسيته بتشجيع الآخرين على القيام بنفس الشيء .

ليس من الضروري ان يفهم المرء هنا ، لماذا يحس ناقل اشاعة معادية بالارتياح بعد تداولها ، قد يكون السبب كافياً لأن يشعر بإرتياح أفضل بعد نشرها .

لازال هناك نوع آخر وسبب آخر لانتشار الشائعات . فعندما يشعر الانسان بالتوتر والضيق فإنه يتشبث بأي خبر يلائمه . كما انه ينهمك في تفكير وتعقيد بصحة الاشياء لمجرد الرغبة بأنها صحيحة .

يطلق على الشائعات المستندة على الرغبة بالوهمية . وتنتشر هذه الشائعات لانها تجعل الناس يحسون بالسعادة . وتظهر بعض الشائعات بشكل عفوي في وسائل الاعلام المسموعة والمرئية والمقروءة ، وتوصف بصراحة بانها شائعات . واذا لم تحصل مبالغة اثناء ترويجها ، يبقى الوصف على انها شائعات ، فليس هناك سوى ضرر طفيف ، اما الشائعات الاخرى فهي الخفية والمتداولة سراً التي تنتشر بشكل لا يصدقه العقل . ان هذه الشائعات خطرة لأن الراوي لا يشعـر بمسؤوليته وانه حر في التعبير عن نزواته ومخاوفه وخصوماته . انه ، يمكن القبول سلبياً بمعظم الشائعات طالما انها خفيفة وتأثرها بطىء في زعزعة الثقة . ومع ذلك ، هناك اشاعات تحفز على العمل ، وهذه اشاعات ذعر تأتي بشكل تقاريـر ولاسيما في حالة دخول البلد اجواء حرب وما يرافقها من ارباكات على الصعد كافة .

ان خطر هذه الاشاعات يكون حقيقي وصريح وآني ، لان السامع يميل لاتخاذ اجراء سريع وفعال بخصوصها . قد يجمع عائلته في سيارته الخاصة ويصطحب معه اعز ممتلكاته ، ثم يهرب بعيداً عن العـدو . بعد ذلك يصبح هذا الشخص نفسه اشاعة وتصبح الاشاعة حقيقة واقعة ، لان الناس حالما يشاهدونه هارباً يقرروا الرحيل معه .

ان الركب الذي يمتد على طول الطريق هو اقوى من كل الاشاعات ، ورمز مرئي لا يحتاج الى اثبات وينشد كل فرد اللحاق به بعد ان يعم الذعر .