الخميس - 28 مارس 2024

الفهم الديني المتجدد وضغوطات الواقع

منذ سنتين
الخميس - 28 مارس 2024


د. علي المؤمن ||

موضوع التجديد في الفهم الديني موضوع قديم جديد؛ ظل يشغل الأوساط الفكرية والثقافية والعلمية في منطقتنا الإسلامية منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي وحتى الآن، وهو موضوع في غاية الأهمية والخطورة؛ لأنه يرتبط بالتحديات التي تواجه الإسلام على مستوى النظرية والتطبيق. وتمثل هذه التحديات إفرازاً للتطورات السريعة التي واجهت الإسلام في مسار عودته الجديدة إلى الواقع؛ عبر الحركات الإسلامية في معظم البلدان الإسلامية، وهو ما يمكن أن نسميه بالتحديات الفكرية التي فرضها واقع التطبيق. وعليه؛ تفرض هذه التحديات تجديداً مستمراً ومتراكماً في الفكر الإسلامي ليستوعب كل تطورات الحياة ويستجيب لحاجات الإنسان الجديد.
ويشتمل التجديد على كل حقول المعرفة الإسلامية؛ بما ذلك القواعد والأدوات والنتاجات. ويستدعي كل ذلك تحديداً للمفاهيم والأطر ومساحات التجديد ومناهجه ولمتخصصيه؛ لكي لا تكون عملية التجديد عملية عشوائية ومفتوحة بالمطلق على كل العناوين ولكل من شاء.
وفي الحقيقة إن مناهج التجديد في الفكر الإسلامي ليست مناهج حيادية أو مجردة منفصلة عن حقائق الإسلام نفسه؛ بل هي مناهج ترتبط بالأصول الشرعية الثابتة، أي بالثوابت الدينية، كما هو الحال مع مناهج ومفاهيم ومصطلحات كالتأسيس والاجتهاد والاستنباط والأحياء والاكتشاف والتأصيل والعصرنة والأسلمة، والتي ينبغي أن تكون دلالاتها واضحة تماماً، وتحول دون الإفراط الى حد الإنفلات، أو التفربط الى حد الجمود والسكون. ولذلك فإن التجديد ليس نسخاً لفكر قائم أو تأسيساً لفكر جديد أو إحياءً لفكر قديم؛ بل هو عملية تفاعل حيوي داخل فكر قائم؛ لإعادة اكتشافه وتطويره، وملء جميع الفراغات التي تظهر بمرور الزمن. أي أن للتجديد قواعده ومناهجه ومرجعيته وثوابته.
ويهدف التجديد الفكري في الرؤية الجديدة إلى صياغة المشروع الحضاري الإسلامي الذي يشتمل على استيعاب جميع متطلبات الحياة في حاضر المسلمين ومستقبلهم. بمعنى دراسة معطيات الحاضر واستشراف المستقبل، للوقوف على طبيعة الحاجات الواقعية ذات العلاقة بالفرد والمجتمع والدولة. أي أن التجديد هو معلول الحاجات العملية، وليس حركة نظرية مجردة ومنفصلة عن الواقع، أو ترفاً فكرياً وعلمياً خارج محددات الزمن والجغرافيا والحقائق الموضوعية الضاغطة. ولا يهدف التجديد إلى اختراع نظريات وأحكام ورؤى جديدة تفصل الشريعة أو الفكر الإسلامي على مقاس العصر أو للتوافق مع الأفكار الوضعية والأنظمة الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية الجديدة الوافدة من الغرب أو الشرق. وبالتالي؛ لايمكن التضحية بثوابت الشريعة وأصول الفكر الإسلامي من أجل إرضاء الآخر أو التكيف مع فكره أو توظيف النص لخدمة الواقع؛ فهذه الموازنات لا تتوافق مع ثوابت الدين وخصائص الديمومة فيه؛ بل يكون الحراك الفكري التجديدي لصيقاً بالمتغيرات وبالنتاج البشري وبفهم الثوابت.
وعليه؛ فإن مساحات التجديد لا تشتمل على ثوابت الدين المتمثلة بالمصدرين المقدسين: القرآن الكريم والصحيح من السنة الشريفة؛ لأن نصوصهما ثابتة ولا يمكن التجديد فيهما أو الاجتهاد في مقابلهما، بل يمكن الإجتهاد في فهم الثوابت وفي استنطاقها وفي استنباط مقاصدها، بما يتوافق ومتطلبات الحاضر والمستقبل، وهي مساحة متغيرات واسعة جداً ومستدامة. وهذا الفهم المتجدد يتمثل في عملية الاجتهاد في الفقه، كوسيلة تستجيب من خلالها الشريعة لحاجات الفرد والمجتمع والدولة، ويدخل في إطارها اللجوء الى الفهم الشمولي للدين وفلسفته ومقاصده، لاستنباط الأحكام الكلية ذات العلاقة بالنظام الإجتماعي. وتستوعب هذه العملية – بالضرورة – تجديداً مستداداماً في قواعد الإستنباط وأصول الفقه، وفي مناهج علم الكلام وموضوعاته، وفي الإنتقال من فقه الأحكام إلى فقه النظريات والنظم، وتأسيس أو تطوير النظريات المتخصصة بكل حقل وموضوع، ابتداء بالاجتماع والسياسة، وانتهاء بالاقتصاد والإعلام وغيرها. فضلاً عن ملاحقة المستجدات والقضايا المستحدثة في كل المجالات. بما في ذلك العلوم والتكنولوجيا.
ونشير هنا الى قضية حساسية تتعلق بالتراث الديني والخلط المتعمد أحياناً في تعريغه وفهم دلالاته. فالثوابت الدينية؛ أي المرجعية الثابتة المقدسة المتمثلة بالقرآن وصحيح السنة؛ هي ليست تراثاً ولا جزءاً من التراث؛ لأنها نصوص صالحة لكل زمان ومكان، وهي مصداق حلال محمد وحرامه. وليس القصد هنا أن فهمها صالح أيضاً لكل زمات ومكان؛ بل أن لكل زمان ومكان فهمه ومتطلباته. وفهم المسلمين السابق لهذه النصوص هو ما نعنيه بالتراث؛ أي أنه ما وصلنا من نتاج علمي ومعرفي شرعي للمسلمين، منذ انتهاء عصر التشريع وحتى الآن، ويشتمل على الفقه في أحكامه المتغيرة، وأصول الفقه، ومتغيرات التفسير القرآني، وعلم الكلام، وكل ما يعبر عن فهم بشري للنصوص وللواقع.
وبذلك فإن المساحة التي تفصل بين النص والواقع، أو القاعدة الشرعية والواقع، هي مساحة عمل الفهم البشري، وهو ما أسميناه في دراسة سابقة بعملية “التفويض التشريعي”، أي تفويض الشريعةُ الإنسانَ ليملأ المستجدات التشريعية وفق متطلبات الزمان والمكان، والتي يسميها الشهيد السيد محمد باقر الصدر بـ “منطقة الفراغ”.
ومن البديهي أن من يملك حق ممارسة عملية التجديد التشريعي والفكري هو صاحب الاختصاص، ككل الإختصاصات العلمية الأخرى التي يعرفها البشر. فعلوم القرآن وعلوم الحديث وعلم الرجال وعلمي الفقه وأصوله وعلم الكلام وعلوم اللغة العربية هي علوم تخصصية، شأنها شأن العلوم التطبيقية والبحتة والإنسانية، ومن غير المنطقي والمعقول أن يكون لكل من شاء حق في الاجتهاد والتفسير والتجديد، لأن دخول غير المتخصصين هذا المجال سيؤدي إلى انفلات فكري وفوضى علمية. وهو ما نشاهده ـ للأسف ـ في بعض الأوساط السياسية والصحافية. ونقصد بأصحاب الاختصاص هنا: المتخصصون في جملة من العلوم الشرعية دراسةً وبحثاً وتحقيقاً، كعلوم اللغة العربية وعلوم القرآن وعلم دراية الحديث وعلم الرجال وعلم الكلام وأصول العقيدة وعلم الفقه وعلم أصول الفقه وغيرها من العلوم التكميلية. ويضاف إليها الفهم العميق والتفصيلي لهؤلاء المتخصصين لموضوعات الواقع وقضاياه ومتطلباته وتطوراته. وهؤلاء المتخصصون في العلوم الشرعية وقضايا العقيدة والفكر الإسلامي، والعارفون بقضايا الواقع وإشكالياته وتعقيداته؛ هم القادرون على التجديد الحقيقي في الشأن التشريعي والفكري الإسلامي.
وبالتالي؛ فإن للفقيه والأصولي والمحدث وعالم الكلام والمفكر الإسلامي تخصصاتهم التي ينبغي احترامها، كما هو الحال مع اختصاصات العسكري والطبيب والمهندس والصحفي التي يجب احترامها أيضاً، ولا تصل الاستهانة بالشريعة والفقه أن يقوم الممثل والموسيقي والصحفي والسياسي بإصدار فتاوى وتفسيرات شرعية، أو يفتي العلماني ويجتهد في قضايا العقيدة والفقه والفكر الإسلامي.
والقول بالتخصص في علوم الشريعة واحترامه وحصر التجديد بأصحابه، يختلف كلياً عن مفهوم الكهنوت ورجال الدين، إذ أن الهدف منه هو الإذعان لضرورة ترك التخصص لأهله، سواء في مجالات الفكر الإسلامي وعلم الكلام والفقه والتفسير، أو مجالات علم الاجتماع والقانون والطب والهندسة والفيزياء، فكلها تخصصات لا بد من احترامها وعدم الاستهانة بأي منها. ويعني عدم الاستهانة بالتخصص أن لا يجتهد الطبيب في الهندسة، وعالم الاجتماع في الفيزياء، والسياسي في الفقه، والصحفي في تفسير القرآن.