الجمعة - 29 مارس 2024

حسن حنفي أو الأيديولوجيا كفلسفة(3)

منذ سنتين
الجمعة - 29 مارس 2024


ادريس هاني ||

أراد حسن حنفي وَقْعَنَة المثال بقدر مَثْلَنَة الواقع، التداني بالمتعالي بقدر التعالي بالمتداني، لقد حدّد مجال التّصور، الواقع بوصفه عقلا؛ ليست استنارته كانطية بل هيغلية، لقد مسك بالروح المطلق، ومثل شباب اليسار الهيغلي، لم يجدوا عن الواقع حولا. إنّهم لم يقعوا في الاستبعاد، فكل شيء يستمد قيمته من الواقع هو موجود، وحين يصبح اللاهوت وفيّا للواقع فهو العقل.
عاصر حنفي حقبة الذروة في صراع الأيديولوجيات الخالصة، بينما اختار اختراق هذا النقاء، ليجعل الأيديولوجيا أكثر قدرة على استيعاب النّقيض؛ إنّها أيديولوجيا مركبة وملقّحة بأيديولوجيات أخرى، لا شيء مستبعد هنا إلاّ بقدر استبعاد العقل وتجاهل الواقع. إنّها حقبة الثورة، والتحرر، والمشاريع النهضوية، والكفاح،ومقاومة الاستعمار. في تلك الحقبة التقى بعلي شريعتي، تفاعل مع طروحاته وآرائه، كان هذا الأخير مناضلا تحرريا مندمجا مع حركات التحرر العالمي، ولأنّه مختص في علم الاجتماع الديني، كانت نظرته السوسيولوجية أكثر ميلا للتغيير. تصميم العودة إلى الذّات، الفهم الثوري للدين: دين ضدّ الدين، محاولات شريعتي المبكرة في إسلامولوجيا، النباهة والاستحمار، كيمياء محمد(ص)، وغيرها من الأعمال التي تعكس فهما للدين أكثر ميلا للثورة، ونزوعا للعدالة الاجتماعية. كان شريعتي سوسيولوجيا فضلا عن أنّه بالنشأة والانتماء ينطلق من المدرسة العدلية، وكان حنفي فيلسوفا فضلا عن انتمائه بالبحث والاقتناع بالمدرسة العدلية في مدرك الاعتزال. كان هناك تقارب بين الإثنين، فضلا عن سنوات التكوين في السوربون، حركات وتيارات قومية وماركسية هيمنت على المشهد السياسي والثقافي في ستينيات وحتى سبعينيات القرن الماضي، وطبقا لنظام الخطاب، فإنّ حنفي أيضا هو ابن سياقه وشروطه الاجتماعية.
في 1979، اهتزّ الشرق الأوسط والعالم على نبأ الثورة الإسلامية في إيران، وكان حنفي من قادة التنظير للاهوت التحرير، مندمجا مع الحراك الثالثي في مواجهة الإمبريالية وتوابعها الرجعية، كان الليبراليون والرجعيون وتيارات أخرى قد رأت في هذه الثورة تقويضا للأسس التقدمية للثورة، لكن حنفي رأى فيها ما لم تراه تلك التيارات؛ لقد رآها ثورة، وأعلن نفسه صديقا للثورة ورجالاتها، ولم ينقطع عنها، بل شارك في الكثير من فعالياتها.
لكن كيف نظر الإيرانيون إلى حنفي؟
لقد شكلت التجربة الإيرانية حدثا مثيرا بالنسبة لحسن حنفي، لقد رأى فيها تجسيدا لمقولات اليسار الإسلامي وطريقته الخاصّة في تأويل الحدث؛ وخلافا لكثير من المثقفين العرب، لم ينحدر حنفي في التهوين من هذه التجربة، بل وكان يملك ما يكفي من الشجاعة لكي يحضر في فعالياتها، ويعبّر عن رأيه بلا تردد ولا وجل. وفي الوقت الذي كان يتعرض حنفي للتكفير في بيئته العربية، كان يلقى احتراما وتقديرا من قبل الإيرانيين، واهتمت الجامعات والمعاهد بقراءاته وقُدمت حوله بحوث ودراسات كما فعلوا مع غيره. ولا شكّ أن تكون هناك قراءات مخالفة، فهذا طبيعي، لكن الاتجاه العام يبدو أكثر تسامحا.
في ذلك اللقاء، كنت مهتما بما سيقوله المتدخلون الإيرانيون بخصوص حسن حنفي، فلقد كانت هناك مداخلات أربعة أو خمسة إيرانية، غير أنّني أدركت منها اثنين لكل من الأستاذين: د. حميد بارسانيا، ود. علي نجف ميرزائي، وكلاهما مفكران إيرانيان معاصران، يُفكّران الحدث ويُؤثران التّأمّل في عالم الأفكار.
بالنسب إلى د. بارسانيا، يعتقد حسب ما تناهى إليه، من أنّ حسن حنفي قدّم مشروعا للحكمة المتدانية مقابل الحكمة المتعالية. وهذا ما بنى عليه بارسانيا، معتقدا بأنّه، لعلّ حسن حنفي كان متأثّرا بموجة العقد الأول من القرن الماضي في فرنسا، في الإطار نفسه لعلي شريعتي، موجة اليسار الفرنسي السائدة أنذاك. ومن هنا رأى بارسانيا أن حنفي قد يقصد بذلك أمرين محتملين:
الاحتمال الأوّل: أنّ الحكمة تنشأ من العمل ومن الواقع، وبأنّه لا قيمة للحكمة إن هي لم تصبح كاشفة عن الواقع والحقيقة ولا تنفع الواقع الاجتماعي.
الاحتمال الثاني: أنّ معنى التداني هو القرب من الأرض، وبأن تكون الحكمة في خدمة الحياة والإنسان. فلا بد أن تكون بينها وبين مطالب الإنسان جسورا. وهذا المستوى من الموقف يراه بارسانيا إيجابيا.
واعتبر من هذه الناحية أن جزء من فكر حسن حنفي هو هوسرلي، لا سيما في نزعته الذاتية، ومن هنا إن كان الأمر يتعلق بذاتية هوسرل، فهذا مخالف لمحتوى معالجته، باعتبار أن البناء الاجتماعية للفلسفة، لا يعتمد على الذهن، بل على الموضوعية والواقعية. فهو يلاحظ أنّ جزء من فكر حسن حنفي تغلب عليه الذاتية، حيثما تحدث عن الذات، والشعور، والأنا، بينما الجزء الثاني تغلب عليه الموضوعية، حيثما تحدث عن الواقع باعتباره محددا للفلسفة ومعيارا لتقييم وتقويم النظر، هنا يخرج من الإطار الهوسرلي إلى الإطار الماركسي. لقد انطلق بارسانيا من تحليل عنوان الحكمة المتدانية، ومع أنّه انطلق من التحليل، فإنّ حسن النية قاده بالفعل إلى إصابة الهدف، على الرغم من عدم توفر المصادر الكافية. والحق، أنّ ما ذهب إليه د. بارسانيا هو ما لم يستطع أن يقرؤه بعض العرب، لا سيما أولئك الذين استعجلوا الحكم عليه. بالفعل حسن حنفي هو حصيلة تداخل اتجاهات مختلفة، فلقد اشتغل في بواكير تكوينه على هوسرل، والظواهرية، كما أظهر ميولا هيغلية، وهذا التركيب هو الذي يجعله في أوضاع وتمثّلات متنوعة. وبالفعل إن فكرة التداني حين تُقرأ في سياق فلسفة الواقع ومعياريته، تصبح اشتباكا مع الحياة والواقع، واستجابة لمطالب الإنسان.
هذا بين يقدم د. ميرزائي فهما يعزز هذا المنحى، مركّزا على ثلاث مفاهيم مفتاحية في مشروع حسن حنفي هي: تثوير الاسلام وأنسنة الاسلام وعلمنة الاسلام ،كلها في نظره تأخذ معنى واحدا عند حسن حنفي. قد يكون ذلك من المفارقة حسب د. ميرزائي، لأن التثوير الاسلامي هو نوع من إعادة تكوين الايديولوجية الاسلامية لتقود الحياة، فكيف نجمع هذا مع فكرة العلمانية التي لا تتوافق مع فكرة أدلجة الدين وانخراطه في الشأن العام؟
غير أنّ د. ميرزائي يحاول تفسير ذلك، بأنّ معنى العلمانية عند حسن حنفي لا تعني فصل الدين عن السياسة، بل هي علمانية ترتبط بالمفاهيم مثل العقلانية والانسانية والحرية، وتحقيق الذات بهذا المعنى. وهذا ما يجعله يؤكد على أن القرآن أساسه علماني أو الاسلام دين علماني، فهو يقصد أنه دين إنساني، متداني، مرتبط بالانسان وحاجاته وعلاقات الانسان، فليس دينا متعاليا عن الانسان، وإنما هو دين مرتبط بمطالب الانسان. وهذا ما يعنيه بالتثوير، أي جعل الاسلام يباشر التغيير الاجتماعي ، فهو يرى الاسلام لو أعيدت قراءته والتراث لو أعيد فهمه على وفق الرؤية الحنفية، سيكون هو نفسه دينا علمانيا يستجيب لحاجات الإنسان، شرط أن تتداخل هذه الأضلع الثلاثة: التراث الإسلامي والتراث الغربي والواقع العربي.
دارت مداخلة ميرزائي حول أنسنة الإسلام وتثوير الإسلام وعلمنة الإسلام في ضوء الرؤية السابقة لحنفي، محاولا مزيدا من الشرح والفهم ، وهو يرى أن حنفي استطاع أن ينجز هذه المهمة في كل العلوم، في الكلام والأصول والفقه والتفسير والفلسفة. وهي محاولة تقوم على أساس تغيير الأولويات وفق ما يفرضه الواقع المعاصر اليوم. فهو يحاول أن يؤنسن هذه العلوم ويثوّرها ويعلمنها، قاصدا جعلها قادرة على تحقيق التغيير الاجتماعي.
وشبّه ميرازئي فكرحنفي ببعض مقولات نيتشه، وهي مقولات قابلة للتأويل، فنيتشه حينما تحدث عن موت الإله، فهو يقصد صورة الإله الذي اصطنعه الإنسان في ذهنه، الإله التقليدي، إله المتخلفين المناهضين للعدالة والعلم، هنا نتحدث عن موت الإله في ذهن الإنسان لا في عالم الثبوت. فالذين يتهمون نيتشه بالكفر هم أنفسهم من يتهم حسن حنفي بالكفر. فهو يرى أنه طالما أننا لا نتوفر على دليل يعزز كفر هؤلاء المطلق، وإنما فقط الاعتماد على مقولات لم يفهموها، لا يمكن وصف الرجل بالإلحاد والكفر. فحسن حنفي يدخل معركة التصورات الذهنية، وليس معركة الحقائق، حنفي لا يواجه الله كحقيقة هنا في نقاشاته، ولكن يواجه الله كبنائية اجتماعية ، تاريخية وظاهراتية، أي الله في متصور ذهني، قد لا يتطابق مع الإله الحقيقي والواقعي، ولكن حنفي لا يدخل ، في كل ما كتبه، في نقاش حول الإله الحقيقي، بل يتحدث عن الإله المصنوع ظاهراتيا في ذهن الناس وليس في مقام الثبوت. ومن هنا اعتبر ميرزائي أن وصف حنفي بالكفر والزندقة هو وصف أيديولوجي.
وفي الاستغراب، يؤكد ميرزائي على أن غاية حنفي هو الإقرار بالاعتراف بأنّ الغرب موجود ولا يمكن تهميشه، ولكن المطلوب فهمه، ليس كما يفهمه بعض المثقفين العرب، وأيضا ليس كما يقدم الغرب نفسه، فلا بدّ من أن ينطلق البناء من فكرنا ووعينا. معرفة الغرب أساسية في تنمية الأنا. مسألة الاستغراب في رأي حنفي تشبه الاستشراق في الغرب، فكما أنّ الغرب ما كان بإمكانه التواصل مع الشرق إلاّ بفتح جسور المعرفة، كذلك نحن في الشرق وجب أن نتعامل معه على أسسنا المعرفية.
يرى د. ميرزائي من جهة أخرى التراث عند حنفي يشمل المعاصرة أيضا، كلنا امتداد للتراث، من هنا تساهم فكرة الاستغراب في بناء التراث. فهي ليست مسألة موضوعها الغرب فقط، بل هي مسألة تتعلق بتراثنا أيضا. فبالاستغراب نجدد تراثنا. فالمسألة شديدة الاشتباك والتنوع، كلها تخدم مشروعه الذي يبدو شاملا، هو مشروع متكامل وليس كاملا، ويرى ميرزائي بأنه لم يجد من بين المفكرين العرب من امتازت مقاربته للتراث بهذا الشمول. ستون سنة وهو يركز على هذه القضايا، حيث وعلى الرغم من تطور خبرته إلا أنه ظل وفيا بشكل مذهل لهذا الإطار، يجب إعادة فهم التراث بالطريقة التي تخدم الإنسان المعاصر. فالإطار الذي بنى عليه حنفي مشروعه، كان أشمل،حيث يتسع للتراث والحداثة بكل حساسياتها وآرائها، فلقد حاول كثيرا واجتهد وتفانى في بلورة مشروعه الذي كرس له معظم حياته.
أرى أنّها مداخلات تقع في إطار الاعتراف، وأيضا محاولة الفهم، وثالثا تسعى للإنصاف فيما هو مشترك. فالميل الكبير الذي أبداه حنفي تجاه الواقع والنهوض به وتحقيق التغيير الاجتماعي، تشكّل الإطار التفسيري لكل محاولاته ومغامراته؛ رحمه الله
ادريس هاني: كاتب وباحث مغربي
:6/12/2021
ــــــــ