الخميس - 28 مارس 2024

تأملات في فلسفة الأغتراب والهجرة, وأشعار الوجد والحنين

منذ سنتين
الخميس - 28 مارس 2024


صادق الصافي ||

نقشت ظواهر ( الأغتراب,الهجرة ,المنفى,الخيال, الشوق,الحنين,الوجد)نقشاً وجدانيا فلسفيا على جدار الذاكرة الأنسانية ,آثار حزينة مثقلة بالهموم والأحزان ,بالصمت والوحشة . كما دلت الآية القرآنية (( لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا )) – الكهف-62-
الحنين ..الأحساس الرومانسي المُغّلف بالحزن الصامت ..المشاعر العاصفة الملبّدة بالدموع .. والقلق والشك.
الحب أحساس وشعور مقدّس شامل يستمر في الحياة, وغاية متعمقة في النفس بكل أبعادها وفي الجسد بكل أجزاءه, بل يسري في الكون فيشع نوراً.. فالحب أصل الحياة والنماء.
أقدس تعريف للحب عند( الصوفية ) هبة حض الله بها المحبين,فمن أحب الله أشتاق الى لقاءه وأرتحل اليه.؟ وقسموا الحب الى قسمين ,شوق على الغياب لايسكن ألا بلقاءالحبيب, وشوق النفوس والارواح على الحضور والمعاينة.
جعل أفلاطون للحب معنى متسامي شفاف راقي له درجات متصاعدة وسمي- ( الحب الأفلاطوني-)الأكثر أشتعالًا واتقاداً,, الشوق أعلى الدرجات..أعلى المقامات, حب يضفي هيام وأشتياق,سهر,مناجاة… الحنين والشوق حالة وجدانية تنمو في الأغتراب لرؤية الغائب – وطنا ..أنسانا..مكانا خاصا-وأرتباط الحب بحالة الشغف الجارف ل-الغائب-تنتج عنه حالة الاغتراب المكاني,حالة عدم الأكتفاء,ألا بالحضور الجسدي,أحساس يستعمر المحبين,لايعترف بالمكان او الزمان, شعور مجنون, عاقل في طياته ذكريات ومشاعر متّقده.؟الاغتراب كحالة وجدانية,من الغروب..غروب الشمس,عزلة وأحساس بالليل ..يتجسدالظلام بابتعاده عن المحبوب أرضا اطلالا او حبيب او اهل او قريب.
الشاعر نزار قباني الذي تغنى بالجمال,وجد في عيون الحبيب –الحنان,الاشواق, الحب الكبير,وعندما تبتعد الحبيبة يجدها في قصيدته –انهار-أقمار-شمس-طيور-
الحبُ ياحبيبتي,قصيدة جميلة مكتوبة على القمر…. الحب مرسوم على جميع أوراق الشجر…. الحب منقوش على ريش العصافير , وحبات المطر …. حبك يا عميقة العينين , حبكك مثل الموت والولادة …. صعب أن يعاد مرتين , لماذا لماذا منذ صرتي حبيبتي ,, يضئ مدادي, والدفاتر تعشب ….تغيرت الأشياء منذ عشقتني,, محفورة أنت على وجه يدي , كأسطر كوفية ..على جدار مسجدِ.! محفورة في خشب الكرسي يا حبيبتي ,, وفي ذراع المقعدِ.؟ وكلما حاولتِ ان تبتعدي ..دقيقة واحدة , أراك في جوف يدي….
نظرة مبسطة لآراء فلاسفة وأدباء اوربا
قول الفيلسوف برتولد بريخت (( الشك يزحزح الجبال, ومن بين كل ماهو يقيني, نجد الشك ,أكثر يقينا )) . وأعتبر- باكلر – أحلام الأرض في جزئين, الأرض وأحلام يقظة الأرادة, الأرض وأحلام يقظة الراحة, موقع للذات تعطيها الأمان , النار والماء والهواء وعلاقتها بالمكونات,تشكل هرمونات الخيال الأنساني, فالريح والبرق أنبثاق ونورانية, والحنين المغلق لأريج الوطن ..الحبيب ..الأهل..الاصحاب..الخ
الفيلسوف- لشتنبرك- يقول – أن الأنسان بحاجة الى الصحبة حتى وهو حالم بعزلته,يشعر بوحدته أقل أمام الشمعة المضاءة.؟ فاللهب المستوحى من الشمعة له شخصية الحلمية,, وهي غير شخصية النار في الموقد, أن الشمعة تحترق بمفردها تسيل الدموع الخفية على أمتداد قنواتها الدمعية,فالعين تضطرب والعين ترتجف عندما يرتجف لهب الشمعة.؟ بينما مُوْقِدْ النار يتأتى كبريائه بوصفة مؤججا عظيما نافخا للنار.؟
تقول د. جنان الشهاوي ( جدائل الحنين)- هل تملك أن تتحول, بالشوق كصهريج نار.. مضطرما بالجذوة..ومدويا كصفير البخار..هل يصير الحب كالموت, فيمتلك سكرات .. وتنحدرالدمعة,على الوجه البليد ..لتضفي للعين بريق,وتسحب أنينا..مع النفس الغريق.!!
الهجرة ..البعد ..الغربة مع مرور الزمن ألهمت أهم أدباء الغرب في القرن العشرين (الشاعر الاسباني لوركا) بأنتقاله للقارة الامريكية
حيث أصيب بخيبة أمل من الحضارة الامريكية المختلفة بالتغيير وتفهم الحياة أكثر, فظل ينظر للحياة بمنظار الحقيقة الحيّة,ذكر في مقالته عن الروح المبدعة – أن الشعر بحاجة الى ناقل ..الى كائن حي- وظل يردد دوما (–أن الشعر لاوطن له -)وان الحنين يرتبط بالشوق والهيجان و نزوع النفس وتعلقها بها , الاوطان .. الاحباب
يقول الشاعر لوركا ( الشعر والصدق تؤأمان لاينفصلان) فالشاعرالصادق لايفتعل رغم انه ينفعل ,أما المتمرد فأنه كالعادة لايخضع لاي قيود ضابطة.؟
ويحي ..أذا عاودني الحنين .. هجرة في رحلة طويلة .. مفتون بأشجان الذكريات الجميلة , الأيام التي ولّت, اللحظات الحزينة الآسية, وما تخلفه في الروح من حزن وحنين خارق..شجن ودموع
بلاغة الحنين في الشعرالقديم عند العرب
بلاغة الحنين, شواهد شعرية تسجل نظرة العرب منذ القدم للحنين –معرفة مفاجأة للمنفى والبعد-
الحنين للمكان والزمان,تحاورأو أنتماء..بدأ من فلسفة الامير الشاعر أمرؤ القيس- المعرف من اسمة –رجل الشدة- الذي يُعَد من عشاق العرب الذي (أحب فاطمة بنت العبيد)حيث قال فيها معلقته الشهيرة
أفاطم مهلاً بعض هذا التدلل —- وأن كنت قد أزمعت صرمي فأجمعي
أغرك مني أن حُبّكِ قاتلي —– وأنك مهما تأمري القلبِ يفعلِ
وما ذرفت عيناك الا لتضربي —– بسهمك في أعشار قلب مُقَتلِ
وقوله أيضا في الحنين الى الحبيب والديار
قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ —- بسقط اللوى بين الدَّخولِ فحوملِ
فتوضح فالمقراة لم يَعفُ رسمها —- لما نسجتها من جنوب و شمأل
وجسد الشاعر طرفة بن العبد الحكمة والموعظة في شعره, الا انه عانى من مرارة الخذلان و النكران وكلاهما ظلم الانسان لاخيه الانسان…. وما أعمق خيباتنا نحن العرب منذ قديم الزمان ,ازمان كثرت فيها المكائد والقطيعة والهجران
قال في معلقتة عن العتب والحنين للحبيبة.. للأطلال
لخولة أطلال ببرقة ثهمد —- تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
فذرني وخلقي أنني لك شاكر —- ولو حلّ بيتي نائيا عند ضرغد
وتخيلوا مرارة و قسوة الظلم على النفس.؟ وعداوات اخوة يوسف التي تتفجر على بعضنا كالبراكين الهائجة من الغيظ والبغضاء – قال الشاعر طرفة بن العبد- أيضا
ستبدي لك الأيام ماكنت جاهلاً —- و يأتيك بالأخبار مالم تزودِ
ويأتيك بالاخبار من لم تبعّ له —- بتاتاً ولم تضرب له وقت موعدِ
وقال في موقف آخربمنطق العتب القاسي
عليّ نحت القوافي من معادنها —- وما عليّ أذا لم تفهم البقرُ .؟
عندما زار أبو العلاء المعّري لبغداد وجالس شعراءها وأدباءها وأقام فيها ردحاً من الزمن حتى أنه عقد صداقات مع الامير الشاعر الشريف الرضي وأخيه الشريف المرتضى من- أحفاد الامام موسى الكاظم –ع- حيث أعجب ببغداد وعندما ارتحل عنها مرغما –مبعداً-أضناه الشوق والحنين, فالشوق هو توقان النفس للوطن البعيد او الاهل او الأحباب,والحنين بالصوت او بدونه ليناجي الخيال
شربنا ماء دجلة خير ماء —- و زرنا أشرف الشجر النخيلا
أعتاد المعّري أن يخاطب الناس رمزاً رمزاً منذ ان عاد من بغداد طريداً الى الشام, يزحزح جبالاً من الشك والخيال المُتّقد من خلال لزوميات شعره, يزلزل عقول سامعيه وقارئي نصوصه, بالوصف واللوعة ,البرق,الريح, لولا انه اغرى بالتماسك وتمالك النفس والصبر وأطالة الصبر كما فعل هو .؟؟
لقد زارني طيف الخيال فهاجني —- فهل زار هذي الابل طيف خيالِ
يلخص الحنين بأحساس رومانسي مغلف بحزن صامت ومشاعر عاصفه
أماكن و ذكريات ولوعة البعد عند(الشاعر ابو فراس الحمداني) تأجج عند أسره في الحرب وسجن في اراضي الروم,يتذكروطنه و أهله وأحباءه,نراه يعبّر بصدق مشاعره عندما سمع هديل حمامة على شجرة عالية قرب سجنه فقال – القصيدة المغناة –الشهيرة
أقول وقد ناحت بقربي حمامة —- أيا جارتا لو تشعرين بحالي
أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا —- تعالي أقاسمك الهموم تعالي
أيضحك مأسور وتبكي طليقة —- و يسكت محزون و يندب سالي
لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة —- ولكن دمعي في الحوادث غالي
الأغتراب والهجرة والحنين والشوق في العصر الحديث
كان الشعرحاضرا في مواقف الهجرة والاغتراب والمنفى منذ أقدم العصور التاريخية قبل ميلاد المسيح-ع-في العصور السومرية-كتابات كلكامش وانكيدو وغيرهم والبابلية والأكدية والاشوريه والعصور التي تلتها-ماقبل الاسلام –وبعدها العصور الاموية والعباسية ..الخ,وحملت الاسفارأحساس عاطفي يجسد الحنين للمكان وأطلال الدياروالحبيب,سجلتها اشعارفحول الشعراء في هذه العصور أمرؤ القيس ,أبوتمام,المتنبي,علي بن الجهم..كسجل للصراع النفسي بين الذاكرة والواقع رغم أختلاف طابع الهجرة,الاغتراب,المنفى بين القديم في ظل البداوة والعيش في الخيام والبراري أو في فترة الاستقرارالمدني وبناء البيوت الثابته والمدن العريقه كدمشق وبغدادوسامراء والكوفة والبصرة والمدينة ومكه وغيرها, تباين في شدة العزلة فأغلب المنفيين او المهاجرين محاصرين بين رتابة العيش وقسوة الحياة وانعدام المواصلات ويعاني من حالة الانغلاق حتى لوقت قريب من القرن العشرين لصعوبة التواصل مع باقي الناس والحصول على اخبار الوطن والناس والاحبه
المهاجر..المغترب –في وقتنا الحالي-منذ نهايات القرن العشرين –بسبب الانفتاح العالمي الانساني والثقافي-يستطيع التنقل بالطائرات والقطارات, وصار الان يتصفح الجرائد و الانترنيت,ومع وجع الروح في المهجر الذي يعيشه وقسوة الذكريات ومرارتها يسعى الغالبية الانفلات والتخلص من هذا الكابوس الذي يحاصر النفس البشرية ,للتكيف مع اوضاعه في المجتمع الجديد الذي قد يختلف معه في الثقافة واللغة والعادات والدين,واذا ما اجاد استخدام عقله وذكاءه فانه ينجح في نقل مواهبه الى خارج الوطن –المكان- فيشغل افكاره باشياء مفيده –الاداب ,الفنون ,الشعر ,الرواية ,المسرح,الموسيقى,الرسم,الترجمة وغيرها, على أمل ان يعود معافى لوطنه والتجوال في مدينته أو قرب عتبة بيته الذي هجره,وان يستعيد جزء من ضياعه,او بتعبير قاسي-هزيمته-في المنفى (الأجباري-او الاختياري)وأن يحلم بالحرية وملاقاة الاحباب والاصحاب او الوقوف على الاطلال
ومن اهم شعراء الاغتراب اوالمنفى الذين سجلوا أشعارا رائعة تجسد الحنين للوطن والحبيب والاهل –منهم –الشاعر أيليا ابو ماضي-الذي حمل لنا آهات الانسان المبدع المتعلق بتراب وطنه لبنان, وترك لنا فيضا من الاشعار المعبرة
لبنان لا تعذل بنيك أذا همُ —- ركبوا الى العلياء كل سفينِ
لم يهجروك ملالة ..لكنهم —- خلقوا لصيد اللؤلؤ المكنونِ
لما ولدتهمُ نسوراً حلقوا —- لا يقنعون من العُلا بالدونِ
الأرض للحشرات تزحف فوقها —- والجو للبازي والشاهين
لكنه عندما وصل الارض الجديدة –القارة الامريكية-أصيب بالخيبة والذهول والحنين –كما حدث للشاعر الاسباني لوركا- فقال
نحن في الأرض تائهون كأنا —- قوم موسى في الليلة الليلاء
ضعفاء محقرون كأنّا —- من ظلام والناس من لألاء
وأغتراب القوي عزّ وفخّر —- وأغتراب الضعيف بدءُ فناءِ
وقدم لنا الشاعر مسعود سماحه تحليل لصورة الشقاء في الغربة
كم توغلت في البراري وقلبي —- سابح مثل زورق في نهرِ
كم تعرضت للعواصف حتى —- خُلتُ أن الثلوج في القفرقبري
كم توسدت صخرة وذراعي —- تحت رأسي وخنجري فوق صدري
ويقول نسيب عريضه ..النادم على الهجرة لأمريكا
ظلاّم الليل قدْ جنّا —- و بوقُ الهّم قد رنّا
فنمْ يا طفل لا يهنا —- غنّي بات شبعانا
ألا ..يا هم يكفينا —- لقد جفت مآقينا
لو أن الدمع يغدونا —- أكلنا بعض بلوانا
وكان شعراء المهجر الاوائل أركان الشعر المهجري من الجنوب الى الشمال يراودهم القلق النفسي والتنازع بين طلب الرزق والعيش وبين غلبة الحنين والم الفراق للوطن والاحباب و تحدثهم انفسهم بالعودة للوطن ومنهم الياس فرحات و ندرة حداد و هذا الشاعر رشيد سليم الخوري –القروي – يقول
ناءٍ عن الاوطان يفصلني —- عما أُحبُّ, البرُ والبحرُ
في وحشة لاشئ يؤنسها —- أِلا انا والعود والشعرُ
حولي أعاجم يرطنون فماً —- للضاد عند لسانهم قدرُ
وكثير من الأدباء المفكرين والشعراءالعرب عانوا من المنفى واحترقوا بنار الحنين وعبروا عن العشق المكنون للوطن والاهل والاطلال وعلاقتهم بالمنفى الاختياري او الاجباري منهم الشاعر السياب في قصيدته –مطر مطر-كتب عن منطق الحنين وهو يعالج نفسه من بلاء المرض. والشاعر محمود درويش الذي جسد الغربة والمنفى وتعابير الحنين للوطن المحتل والام المخلصة حتى وهو على عتبة الموت
صادق الصافي –النرويج