الخميس - 28 مارس 2024
منذ سنتين
الخميس - 28 مارس 2024

محمد عبد الجبار الشبوط ||


تمثل العدالة هدفا ساميا تسعى الشعوب الى تحقيقه والعيش في كنفه. وبذلت في هذا السبيل الكثير من الجهود وقدمت الكثير من التضحيات. وكتب عنها الكثير من المفكرين والفلاسفة والمصلحين والعلماء فضلا عن الانبياء، وسجل القران الكريم “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ”، وهذا ما يجعل العدالة شأنا ومتطلبا دينيا لا يقل اهميةً عن المتطلبات الدينية الاخرى.
والعدالة على الصعيد الاقتصادي من الشروط الواجب توفرها من اجل تحقيق السعادة. وهي تمثل الحل لاحد طرفي المشكلة الاقتصادية. ولهذا كانت العدالة من اهم الاهداف التي تعمل الدولة الحضارية الحديثة على تحقيقها.
وقد لخص القران الكريم جوهر المشكلة الاقتصادية بالكلمات القليلة التالية:
“وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ”. (ابراهيم 34)
وطبقا لمنهجه الحضاري في فهم القران، فسّر الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر هذه الاية كما يلي:
“ظلم الانسان في حياته العملية وكفرانه بالنعمة الالهية هما السببان الاساسيان للمشكلة الاقتصادية في حياة الانسان.
ويتجسد ظلم الانسان على الصعيد الاقتصادي في سوء التوزيع. ويتجسد كفرانه للنعمة في اهماله لاستثمار الطبيعة و موقفه السلبي منها”.
وطبيعي ان نقول ان العدالة في التوزيع هي الحل لمشكلة الظلم، وان التنمية هي الحل لمشكلة سوء الاستثمار.
وسنعالج في هذا المقال الفرع الاول من المشكلة وهو سوء التوزيع (الظلم على الصعيد الاقتصادي). ولعل افضل من كتب عن هذا الموضوع ممن اعرف هما السيد محمد باقر الصدر والفيلسوف الاميركي جون راولز.
قدم السيد الصدر، في كتابه الكبير “اقتصادنا”، رؤية للعدالة في التوزيع قائمة على اداتين رئيستين هما: العمل والحاجة. وهما المعياران اللذان يتحدد من خلاله مقدار ما يحوزه الانسان من الثروة. والعمل كما نعلم هو العنصر الخامس في المركَّب الحضاري.
ففيما يتعلق بالعمل قال: “ان العمل سبب لتملك العامل للمادة (المنتجة)، وليس سببا لقيمتها”. ولابد انه استوحى ذلك من قوله تعالى:
“لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا ۖ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ”.
والتنكير في كلمة “نصيب” يوحي ان هذه الملكية للمادة المنتجة ليست مطلقة، وانما نسبية، حيث يوجد طرف اخر يستحوذ على “نصيب” اخر مما ينتجه الرجال والنساء في المجال الاقتصادي. وهذا ما تنص عليه ايات اخرى في القران مثل قوله تعالى: “وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ، لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ”. وقوله تعالى:”وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ”، “وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَّعْرُوفًا”.
وهذا الطرف الاخر في “النصيب” هو المجتمع او الدولة. وسيكون لهذا الطرف دور مهم في تحقيق العدالة الاجتماعية كما سوف نرى.
فاذا كان العمل اساسا في ملكية نصيب من الثروة المنتجة، فان الناس يختلفون في قدراتهم العملية على العمل، وبالتالي على الكسب والانتاج.
ويمكن تقسيم الناس الى ثلاث فئات من هذه الناحية وهي:
اولا، الفئة القادرة على العمل بما يكفي لسد حاجتها.
ثانيا، الفئة القادرة على العمل بما يكفي لسد جزء من حاجتها.
ثالثا، الفئة غير القادرة على العمل اصلا، اما لعدم توفر فرص العمل، او لعدم امتلاكها الخبرة والكفاءة اللازمة للعمل، اما بسبب الظروف الاجتماعية، او بسبب قاهر لاعلاقة له به كالعوق او العجز.
وتشكل الفئة الثانية والثالثة فئة “المحرومين” التي اشار اليها القران الكريم.
وهنا يأتي دور الحاجة في نظام التوزيع العادل. فعلى النظام الاقتصادي العادل ان يأخذ “نصيبا” من الثروة التي شارك بانتاجها افراد الفئة الاولى، وتوزيعها على افراد الفئة الثانية والثالثة، وذلك عن طريق الضرائب التي تفرضها الدولة على الافراد، او عن طريق الثروات الطبيعية المملوكة ملكية عامة، مثل عائدات النفط او غيرها. ويتم القيام بذلك عن طريق التكافل الاجتماعي والتوازن الاجتماعي.