الخميس - 28 مارس 2024
منذ سنتين
الخميس - 28 مارس 2024


رياض البغدادي ||

بسم الله الرحمن الرحيم
” مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ . عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ . قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ . رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ . ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ” سورة المؤمنون الآيات 91 – 96
أثبت الله تعالى هنا أمرين : الاول قوله تعالى “مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ ” وهو نفي الولد كرد على من ادعى أن الملائكة ابناء الله، والامر الثاني قوله تعالى ” وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ ” وهو رد على عبادة الاوثان وربما هو رد على النصارى .
ثم أتْبع ذلك بدليل عقلي، وهو قوله تعالى ” إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ” أي أن ذلك حتما سيؤدي الى تمايز ( الآلهة ) المفترضة، وتمايز ممالكهم، وبالتأكيد ستظهر قدرات كل إله، مما يستدعي تنافسهم وتعالي بعضهم على بعض، كما هي سنن ملوك الأرض.
سؤال : ﴿إِذًا ﴾ لاتدخل إلا على كلام هو جزاء وجواب، فكيف وقع قوله ﴿ لَذَهَبَ ﴾ جزاءً وجواباً ولم يتقدمه شرط ولا سؤال ؟
نقول إن الشرط محذوف وتقديره ( ولو كان معه آلهة )، وإنما حُذف لدلالة قوله ” وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ ” عليه .
ثم نزه الله تعالى نفسه من إثبات الولد بقوله ” سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ” .
قوله تعالى “عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ” نبه الله تعالى الى أن من يملك علم الشهادة، لايكون محيطاً إن لم يضم لها العلم بالغيب، فهو تعالى العالم بالغيب وبالشهادة معاً، وهما طرفا العلم بالنفع والقدرة عليه، وهذا لا يتسنى لغيره تعالى ” فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ “.
قوله ” قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ . رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ” أمر الله تعالى نبيه أن يُظهر الانقطاع اليه، ولا يرجو رؤية عذاب قومه، وهو مما يجلب التهمة له في نفوس المعذَّبين، بأنه ظلمهم حيث لم يدفع عنهم العذاب بالرغم من أنهم قومه .
قوله ” وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ”، أي نريك ما هيأنا لهم من أصناف العذاب، أو اننا نقدر أن نريك ما سيلحق بهم من عذاب في الدنيا، وهو عذاب القتل الذي جرى في أهل البغي .
ثم جاء الخطاب الى النبي (ص)، أن يصبر على كفرهم، ويدفع بالحجة والبرهان جدالهم ومكرهم وسيئاتهم، فقال تعالى” ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ” .
*كلام في الغيب والشهادة
الغيب مصدر يراد به الغائب ،والشهادة يراد بها الشاهد ،وقد قيل في الغائب والشاهد أقوال:
قيل إن الغائب هو المعلوم غير الموجود والشاهد هو الموجود، وهذا يعنى أن الله تعالى عالم بالموجودات وغير الموجودات، وقيل إن الغائب هو ما غاب عن الحس والشاهد ما حضر وأمكن تحسسه، وهذا يعني أن الله تعالى يعلم بالمحسوسات وغير المحسوسات، وقيل الغائب ما غاب أمره عن الخلق ،والشاهد ما حضر، وهذا يعني أن الله تعالى يعلم ماغاب عنا وما حضر لدينا، وهذه الأقوال كما ترى إنما تتحدث عن العلم الذي ينطبق حضوره وعدم حضوره بالقياس للإنسان، هذا الكائن الضعيف، ولهذا نجد أن هذه الأقوال منفردة، بعيدة عن المفهوم الحقيقي لـ ﴿ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾.
فالغيب والشهادة اللذان يتحققان فيما بين الأشياء بقياس بعضهما الى بعض، هما معاً شهادتان بالنسبة إليه تعالى .
وفي الخطبة التاسعة بعد المائة من خطب نهج البلاغة، يقول الإمام علي عليه السلام مخاطباً الله تعالى :” كُلُّ سِرٍ عِنْدَكَ عَلانِيَةٌ و كُلُّ غَيْبٍ ِعِنْدَكَ شَهادَةٌ ” ولأجل فك رموز هذه العبارة العظيمة، القائمة على كلمة ﴿ ِعِنْدَكَ ﴾، لابد من ثلاث مقدمات :
المقدمة الأولى لابد أن نعلم أن الله مجرد، أي أنه قائم بذاته، لا يتعلق وجوده بشيءٍ أو أمر آخر .
المقدمة الثانية منْ هو قائم بذاته يكون حاضراً عند ذاته، ولا تنفك ذاته عن ذاته .
المقدمة الثالثة أن العلم هو حضور المعلوم بعينه او بصورته لدى المجرد من دون واسطة .
فإذا عرفنا هذه المقدمات، سينكشف لنا: أن الله المجرد القائم بذاته، الموجود لذاته، الحاضر عند ذاته، المنكشف لذاته، غير المحجوب عنها، هو عالم لذاته بذاته، لا بأمر آخر، فتكون ذاته جل جلاله عقلاً وعاقلاً ومعقولاً، وهذه الثلاث إعتبارية من جهة التعبير.
والله العالم