الخميس - 28 مارس 2024

الشاعر الذي إخترع “الجاجيك”

منذ سنتين
الخميس - 28 مارس 2024


حمزة مصطفى ||

جاء في الأثر أن صبيا سأل الشاعر أبوالعلاءالمعري هل أنت القائل “وإني وإن كنت الأخير زمانه .. لآت بما لم تستطعه الأوائل” ؟ ولما أجاب رهين المحبسين الصبي بنعم, أعاد الصبي اليه السؤال بصيغة أخرى إفحمته مثلما أريد أن يقال لنا قائلا له ” العرب جاءوا بـ28 حرفا فهل لك أن تأتي لنا بالحرف 29). أسقط بيد أبي العلاء المزهو بنفسه وبشعره حين رد عليه الفتى الصاع صاعين. وبلغة عصرنا ومفرداته السوشيال ميداوية فإن الصبي كما لو كان قال لأبي العلاء ” إنك لم تخترع الجاجيك “. لم أستوثق من صحة الحادثة ذلك أن جانبا غير قليل من موروثنا التاريخي والفكري والمعرفي بني على مرويات وأخبار آفتها الكبرى تكمن في المقام الأول فيمن رووها عبر العصور.
إمرؤ القيس الذي تناولت الأسبوع الماضي هنا في “الزوراء” “كافه وكفاكفه” لم يخترع هو الآخر الجاجيك حين قال في طريق عودته من رحلة خائبة الى قيصر الروم بيته الشهير “ولوإنها نفس تموت جميعة .. ولكنها نفس تساقط أنفسا”. لم أستوثق ولن أستطيع من صحة هذا البيت طالما أن المرويات والأخبار تروى آحادا وبالعنعنة أحيانا. مات أمرؤ القيس قبل نحو 16 قرنا ولم تتساقط خلفه أنفس لكن شعره لم يتساقط برغم كر الأزمان وولادة الشعراء تلو الشعراء. لم تتمكن لا وقائع الدهور وتحولات الأمم والدول والحضارات أن تقلل من شأن بل عظمة “قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل”. حاول بكثير من البؤس مرجليوث ومن بعده طه حسين التشكيك بوجود إمرؤ القيس قائلين أن شعره منحول بعد الإسلام. لكن قفا نبك فوق مستوى حماد الرواية أو حماد عجرد وحتى من كتب أشعار الف ليلة وليلة الهزيلة لكن “تعلق قلبي” لكثرة مافيها عن وعن وعن وعن وهي وهي وهي وهي وكم وكم فكم وكم فكم يمكن أن لاتكون لإمرئ القيس. أما لماذا نسبوها اليه دون غيره؟ ربما لم يجدوا قامة أطول من قامته.
من هو الشاعر الآخر الذي تخيل إنه إخترع الجاجيك بل وحتى التبولة والحمص بطحينة والبابا غنوج بعد أبي العلاء؟ بلا شك إنه المتنبي. قبل المتنبي بدا الجواهري (محمد مهدي شاعر العرب الأكبر) مثلما هو لقبه معجبا بأبي العلاء حين خاطبه بعد الف عام من وفاته في إحتفال بمعرة النعمان بدمشق في ستينيات القرن الماضي “أبا العلاء وحتى اليوم مابرحت .. صناجة الشعر تهدي المترف الطربا”؟. بالمناسبة كان المعري يحب المتنبي بحيث كتب عنه كتابا كاملا أسماه”معجزأحمد”. المتنبي عظمة ولغة وسبكا بلاغة وشموخا وكبرياء تنطبق عليه كل مواصفات الشاعر الفحل الأول على طول الخط. لكن دائما هناك حدود طالما أن أحدا لم يخترع الجاجيك. فالمتنبي يهجو مجايليه الشعراء قائلا “أرى كل يوم تحت ضبني شويعر .. ضعيف يقاويني قصير يطاول”. لم يكتف بذلك بل حاكى ناقته”شيم الليالي أن تشكك ناقتي .. صدري بها أفضى أم البيداء”. لو كان سكت أفضل لكنه زاد كثيرا حتى بلغ المرحلة التي يتقدم له فيها صبي جديد ليفحمه فيما إذا كان إخترع هذه المرة خل التفاح وشربت الحاج زبالة حين قال “وما الدهر الإ من رواة قصائدي .. إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا”. على كيفك أبو محسد .. “لاتكلبه بينا”.