نفحات قرآنية ( 33 )
رياض البغدادي ||
بيم الله الرحمن الرحيم
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) سورة المؤمنون
لما قدم الله تعالى البراهين على مالكيته وخالقيته وعظمته ، فجاء الخطاب بأن كل من يدعي أن هناك إله آخر ، لابد ان يأتي ببرهانه ، ومن لا برهان له فلا يسمع قوله ، وقوله تعالى ( فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ) يبين شدة العذاب المعد له ، بحيث ان الله تعالى أخفاه لشدته وعظيم هوله . وهو تقرير على إن الكفر الفطري ليس لأحد أن يعاقب عليه فأمره الى الله تعالى حصراً وهذا غير المرتد فتدبر .
والإله بالتعريف اسم للمعبود بحق ، وهو الله سبحانه ، وإذا ذُكِرَ بدون التعريف ” إله ” كان اسمًا لكل معبود ولو باطلًا .
وهناك فرق بين الدليل والبرهان ، فالدليل يمكن الجدال فيه من خلال تضعيفه أو تجريده من دليليته وحجيته ، أما البرهان فلا يكون كذلك ، بسبب ما يرافقه من أمور يصعب إنكارها ، مثل حكاية ( أن ربي يأتي بالشمس من المشرق فأتي بها أنت من المغرب إن كنت إلهاً حقاً ) ، وهو ماجرى بين النبي ابراهيم (ع) والنمرود ، والدليل كما هو معلوم يقرب الذهن الى تقبل صدق الدعوى ، بينما البرهان يفرض مصداقية الدعوى على الذهن ويجبره على تقبلها ، لعدم القدرة على ردها ، فنحن عندما نحاول ان نأتي بأدلة تثبت أن الماء الذي في الإناء بارداً ، غير أن نرش ذاك الماء على وجوه المطالبين بالدليل ليتيقنوا من برودته ..
وقد جاءَ البرهان فى القرآن على ثلاثة أَوجهٍ:
الأَوّل: بمعنى المعجزة، والولاية: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ}.
الثانى: بمعنى الدّليل، والحجّة: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} .
الثَّالث: بمعنى القرآن، والنبوّة: {يَا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ} أَى كتاب ورسول .
فيكون البرهان إذن ، هو إقامة ما يثبت صدق الدعوى ، وفي قضية البرهنة على وجود الإله الآخر تتم بثلاثة امور :إما أن يكون هناك أثر لوجود ذلك الإله . أو ان يقدم المبرهَن عليه وهو الإله ماعنده من بيان لإثبات حقيقة وجوده . أو أن يتولى من أيقن وجوده عملية البرهنة عليه.
وبذلك فإن الله تعالى عندما قال ( لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ) ، يكون بذلك قد نفى وجود الإله الآخر أصلاً ، فإذا كان هناك ما يحتمل وجوده ، لكان الأولى أن يُطلب البرهان من الإله المزعوم نفسه ، فكيف يكون إلهاً وهو يعجز أن يقدم ما يثبت وجوده ؟
وبذلك ننفي من قال إن طلب البرهان دليل ضمني على إحتمال وجود الإله الآخر .
ولما كان إبتداء السورة بصفات اهل الفلاح ” قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ” ممن هم في حضيرة العبادة والطاعة ، جاء ختام السورة بسلب الفلاح عن الكافرين ، الذين وضحت الآيات صفاتهم ، فشتان بين فاتحة السورة وخاتمتها ، فلا مهرب للعباد من الاختيار .