الجمعة - 29 مارس 2024

الوضع التاريخي للروايات بين تسالم القراءات والنقد الموضوعي

منذ سنتين
الجمعة - 29 مارس 2024


الدكتور علي زناد كلش البيضاني ||

تطالعنا الكثير من الروايات في صفحات التاريخ التي تأخذ مأخذ التصديق والتسالم ، لأنها نتاج لسردية القراءة غير الواعية التي تتفحص المضامين خلال منهج البحث القائم على تفكيك المراحل ، وإعادة التركيب من جديد عبر منهاج استقصائي تحليلي ومداخل نقاشية غير خاضعة لأي تراكمات سوى ما تمليه النصوص من معطيات وظفت لتحقيق مقاربة موضوعية لحقائق التاريخ ، ولنا في رواية اتخاذ مسلم بن عقيل (ع) لدليلين يوصلانه إلى الكوفة بعد خروجه من المدينة خير دليل على ذلك مما ذهبنا إليه كنموذج للوضع التاريخي الذي تتضح ملامحه وتتبين صورته بعد إخضاع الرواية لمجهر التحليل الموضوعي وربطها بقرائن وحيثيات تُشكل دلائل واضحة لتكذيبها أما نص الرواية التي تحدثت عن إرسال مسلم بن عقيل (ع) للإمام الحسين (ع) رسالة وإليك نصها كما جاءت عند الطبري ت310هـ في ج3 / ص279 ” أما بعد فإني أقبلت من المدينة معي دليلان لي فجارا عن الطريق وضلا واشتد علينا العطش فلم يلبثا ان ماتا وأقبلنا حتى انتهينا إلى الماء فلم ننج إلا بحشاشة أنفسنا وذلك الماء بمكان يدعى المضيق من بطن الخبيت وقد تطيرت من وجهي هذا فإن رأيت أعفيتني منه وبعثت غيري والسلام” ، والسبب لهذهِ الرسالة كما يرويه الدينوري ت282هـ في كتابه الأخبار الطوال ص230 إذ ذكر ” استأجر دليلين من قيس، وسار، فضلا ذات ليلة، فأصبحا، وقد تاها، واشتد عليهما العطش والحر، فانقطعا، فلم يستطيعا المشي، فقالا لمسلم: عليك بهذا السمت، فالزمه لعلك أن تنجو فتركهما مسلم ومن معه من خدمه بحشاشة الأنفس حتى أفضوا إلى طريق فلزموه، حتى وردوا الماء، فأقام مسلم بذلك الماء”.
بتفحص المضامين الواردة في الروايتين وإخضاعها لمنطق التحليل الموضوعي تنبلج لنا الأساسات الواهية والضعيفة التي تأخذهما إلى خانة التكذيب وعدم الصحة والأسباب كثيرة منها على سبيل المثال لا الحصر :
1ـ إن الإيحاء في كلمة ( فضلا ذات ليلة ) أي تاها في الطريق بفعل ظلمة الليل لا ينسجم مع الواقع لأمرين :
الأول : كيف يضلا الطريق وهما دليلين للطرق بمعنى هم أعرف من غيرهم بمسالك الطرق .
الثاني : على فرض أن تنكبهما لغير هذا الطريق كان متعمداً بسبب الخوف من طلب الأمويين لهما ، نقول بإنهما لا يعلمان بطبيعة المهمة بل وينبغي أن لا يعلما بذلك .
2ـ ورود كلمة (التطير) في الرواية من قبل مسلم بن عقيل (ع) لا تنسجم و لاتتماشى مع ما يتبناه أهل بيت النبوة من مفاهيم حقة لا سيما وأن مسلم (ع) من فقهاء بني هاشم فهو ربيب العلم والدين و لا يليق بشخصه أن تخرج منه هذه الكلمة ولهذا نجد أن السيد المقرّم قد فند ما نُسب لمسلم (ع) من التطير الوارد في الرواية .
3ـ بلحاظ التتبع التاريخي للروايات نجد أن الإمام الحسين (ع) قد أردف مع مسلم (ع) في خروجه هذا ثلاثة أشخاص كما يروي الطبري ج3 / 277 وهم ( قيس بن مسهر الصيداوي و تاريخ الطبري وعبد الرحمن بن عبد الله الأرحبي و عمارة بن عبيد السلولي ) وهؤلاء بأجمعهم من الكوفيين وليسوا حجازيين ، وإذا كان كذلك فلا يخفى عليهم الطريق من المجيئ لمكة والعودة للكوفة إذ تنتفي هنا حاجة وجود الدليل لا سيما وهم حريصون على كتمان المهمة أكثر من الإدلاء فيصبح وجودهم دون دليل هو أحد الأساليب الوقائية من انتشار خبر مجيء مسلم (ع) للكوفة .
4ـ لنرجع إلى الدليلين الذين ماتا من العطش ونحاكم الواقع أليس يفترض بمن يمتهن هذه المهنة أن يكون مستعداً ومتحضراً لها من كل الجوانب كالماء والطعام ، ثم أن من يعمل هذا العمل لابد أن يكون موطناً نفسه للتحمل والصبر لما تعترضه من ملمات في الطريق.
5ـ الذي يستقرئ الرواية يجد العجب من ترابط عضوي ومصادفة بين الدليلين من خلال (ضلا معا ، و عطشا معا ، وبلغ بهما العطش لدرجة الموت ، وماتا معاً ) كل ذلك في مكان واحد ووقت واحد ، ألم يكن أحدهما أصبر من الأخر ليبقى فترة أطول؟.
6ـ إذا كان العطش قد أصاب الدليلين فما بالك بالأربعة الآخرين ألم يصبهم العطش ؟ وهم قد عانوا نفس المعاناة ، وعلى فرض وجود الماء معهم فهل من المعقول والمقبول أن يبخلوا عليهم بالماء ونحن نعلم أن مسلم (ع) من فرع بيت رحماء على أعدائهم حتى في أحلك الظروف فكيف بالأدلاء لهم على الطريق .
7ـ إذا كانا قد بلغ بهما العطش وأشرفا على الموت كيف نجد أنهما أشار على مسلم (ع) إلى إكمال الطريق والاستدلال عليه ، فهل لمن يعاني من سكرات الموت أن يعي من حوله أو ينتبه لنفسه ليُنبه غيره .
8ـ كيف ذهب قيس الصيداوي راجعاً وهو يحمل الرسالة للإمام الحسين (ع) من مسلم (ع) ؟ فإذا كانا خبراء الطريق قد أضلا الطريق فكيف بقيس الصيداوي ، وهذه إشارة خفية من المؤرخ على معرفة قيس بالطريق لأنه من الكوفة ، وأذا كان كذلك فلنرجع للنقطة الثالثة التي تؤكد ما ذهبنا إليه .
9ـ كيف واصلوا الطريق إلى الكوفة دون أدلاء ؟ وكيف وصلوا مباشرةً دون تعرقلات وإبطاء وتأخير ؟ معنى ذلك أن من كان مع مسلم (ع) عارفين بالطريق جيدا لا سيما وأن المسعودي في كتابه مروج الذهب ج2 / 64 يذكر أن الرحلة قُطعت بنفس المدة الطبيعية المتفق عليها وهي خروج مسلم (ع) من مكة 15 رمضان ودخل الكوفة 5 شوال وهي عشرون يوماً التي تمثل المدة الزمنية الطبيعية ما بين مكة والكوفة .
10 ـ أما بالنسبة لمكان وقوع الحادث فقد ورد في الرواية ( مضيق الخبت ) يفترض أن يكون بين المدينة والكوفة ، بينما عندما نستطلع أصحاب الاختصاص ومنهم ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان ج2 / 343 ينقل بأن الخبت هو سهل في الحرة يعني في المدينة والذي أكده الشيخ باقر شريف القرشي بأنه علمٌ لصحراء بين مكة والمدينة .
نخلص إلى نتيجة أن رواية الدليلين رواية مكذوبة ولا صحة لها طبقاً للمعطيات التي أوردناها ، وهنا ما نؤكد عليه هو أن نقرأ التاريخ ضمن منطق فلسفة التاريخ في البحث والتحليل والربط والنقد لاستخلاص نتائج موضوعية .