الاثنين - 11 ديسمبر 2023

العراق وتأثير المدن الخمس.. مكّة – المدينة – دمشق – الكوفة – بغداد

منذ سنة واحدة
الاثنين - 11 ديسمبر 2023


علي عنبر السعدي ||

إشكالية النشوء وصنع الأزمنة
لم يكن الصراع بين الامام علي ومعاوية هو صراع بين شخصيتين ورؤيتين ، بل بين مدينتين مختلفتين بالكثير من الأوجه.
مقارنة بين مكّة والمدينة كمدن صحراوية ، والكوفة كمدينة حديثة ، ودمشق العريقة بالمدنية ، وبغداد التي انتجت حضارتها الخاصة ، يمكن ملاحظة التالي:
مكّة كانت مدينة مقدسة عند جميع القبائل العربية ،منذ أزمنة طويلة ، ومن خلالها استطاعت قريش تحويلها بالى (عاصمة؟) لقبائل البادية ، وجعلوا موسم الحج اليها ، مناسبة للتواصل فيما بينهم ، والتبادل الشعري والتجاري والاجتماعي ، حيث تعقد المصاهرات والمعاهدات وغيرها ، اما المدينة المنورة (يثرب) ، فكانت بمثابة واحة الاخضرار ومصدر الخيرات المادية ، تسكنها مجموعات بشرية ، تجمع بين خاصية المدينة من جهة ، والتواصل مع القبائل البدوية من جهة أخرى ، لذا استطاعت كلّ من هاتين المدينتين ،ايجاد قواسم مشتركة ، تجمع بين خاصية المدينة وميزة الصحراء ، ولم يتم الاستيلاء على أيّ منهما بطريقة الغزو ،فقريش انتزعت مكّة بانقلاب داخلي ، ويثرب دخلها المسلمون طوعاً وليس غزواً ، اما الكوفة ورغم انها تحوي خصائص المدينة جغرافيا ،فإنها جاورت الصحراء ، فيما تقع على نهر الفرات ،و توافر لها مصادر عيش تؤهلها للاستقرار ، بعيداً عمّا كانت عليه حياة الترحال في الصحراء .
كان على الكوفة ان تبني مقومات دولة حديثة ، تجمع مابين عراقة الإرث الرافديني بمدنيته وقوانينه، وبين ماجاءت به الرسالة المحمدية ، وإنتاج تجربة خاصّة ، تستطيع تأطير القبائل ، التي لم تألف بعد وضعها الجديد.
ما كانت الكوفة تعتمد على جذر مقدس ، أو مكانة مقدسة كما هي مكّة ، ولا امتداداً قبلياً أضيفت اليه قدسية الرسول، كماهي المدينة المنورة ، ولا مدينة توالت عليها الإمبراطوريات والملوك كما دمشق ، وهكذا عانت الكوفة مصاعب التأسيس ومشكلاته ، ليس بكونها مدينة وحسب ، بل باعتبارها تجربة حديثة، تجمع بين متضادات متعددة ، لتنتج خصوصية نظام سياسي، يعتمد المواطنة نموذجاً ، والقانون الإنساني والعدالة تطبيقا .
حين انشئت بغداد بعد ذلك بقرن ، استفادت من خلاصة المدن الأربعة المذكورة ، واستثمرت الجغرافية في تشييد مدينة ، تمتع سكانها بالكثير من الحرية ، فلم تكن متزمتة كما هي مكّة ،ولا منورة كما المدينة ، ولا قيد التجربة والنشوء كما هي الكوفة ،لقد أخذت من دمشق مدنيتها دون خضوعها ، ومن مكة رسالتها دون قدسيتها ، ومن المدينة تنوعها ، ومن الكوفة حريتها ،فكان ان اجتذبت بغداد كل صاحب علم وابداع من أي جنس ونوع ، .لم تكن ارستقراطية قبلية أو طبقية قومية كما هي مكة ودمشق ، ولاقبلية خالصة كما هي المدينة ، لذا تعددت بها مدارس الفقه والشعر ،وبثت بها معالم الحياة بكل مباهجها ومستوياتها.
تظهر سيرورة المدن ، انها لم تكن دائماً لصيقة بقانون عادل ، ولاتبني قيم واخلاق ومساواة بين الناس ، فمنها ظهر الحكام الطغاة والقانون الجائر ، وظاهرة العبيد والجواري والمؤامرات والاغتيالات ، وغيرها من الظواهر التي انتهكت الإنسانية وجعلتها في ادنى مستوياتها ، لقد كان للاستقرار الذي وفرته المدن، أثمانا غالية ، دفعتها المجتمعات والانسان الفرد على السواء ، وهذه الظواهر بمجملها، لم تكن مما الفته البادية في حياتها البسيطة وعلاقاتها الواضحة غير المعقدة.
كانت المدن السومرية تستطيع تبديل ملوكها أو الثورة عليهم ، وبالتالي كانت أشبه بتقاليد القبائل في علاقتها مع رؤسائها ، وهناك مؤشرات على ان القبائل ،هاجرت أساساً من أرض الرافدين ، نتيجة للطوفان الذي غمر أجزاء شاسعة من تلك الأرض ، وللتخلص من القوانين ،التي حفظت حقوقهم من جهة ، وصادرت الكثير من جهة أخرى ، بالتالي نقلوا من معظم عادات وتقاليد
بلاد الرافدين ومعتقداتهم ، منها الكرم ، المرتبط الاجزال بالعطاء ، مع توافر الخيرات التي تغدقها الأرض ، ومما يفيض عن الحاجات بشكل أساس ، وهذا ما يناقض البيئة الصحراوية شحيحة الموارد ، التي لا تتيح ظهور الكرم كعادات متأصلة ، لكن القبائل البدوية تكيفت مع تلك العادات ، لانهم رأوها ضرورة لاستمرار حياتهم، فالبدوي دائم الهجرة في البحث عن الواحات والمراعي ، كان بحاجة ان يجد المأوى عند قبائل أخرى ، خاصه هو يأتي كعابر سبيل وليس غازياً ، وبهذه الحالة ومع شيوعها ، وبشعور الجميع بأنه بحاجة الى الجميع ، أصبح الكرم جزءاً من العادات البدوية ، وارتبط كذلك بالأمن ، وبنوع من الشرف ، فالذي يأكل من زاد بيت أو اكرام قبيلة ، يمتنع من غزوها ، وهو ما سمي عندهم بعهد الزاد والملح ، فيما القبيلة الممتنعة عن اكرام الضيف، ووسمها بصفه البخل فأنها ، تعرّض نفسها لغزو القبائل الأخرى أكثر من غيرها ، وذلك انتقاماً لخروجها من الأعراف السائدة ، والشعور بأن البخيل يجمع من المال الكثير، لذا تصبح شهرتها بلاء عليها ، من هنا جاءت
صفتا(الوهب والنهب) باعتبارها من اخلاق البادية ، رغم ان هذا المدن ، تحتفظ بخاصية النهب ،بما تفتقد خاصية الوهب ، وفيما يتم النهب في البادية بطريقة معروفة هي الغزو وقطع الطريق ، فإنه يتم في المدن بطرق متعددة – كالنشل والسلب والرشوة والغش في البيع والشراء وسواها- .
لقد واجهت الكوفة تلك الاستقلالية ، فقد ارادها الامام علي مدينة بنواة دولة ،يتمتع فيها الانسان بالحرية والمساواة ، ويحكمها قانون عادل ، يكون مفهوم المواطنة ،هو المعيار الأول ،لمدينة تسودها القيم العليا والتعاضد الإنساني ، من دون ان ترافقها الظواهر التي عرفتها المدن منذ اقدم العصور ، لكن ساكني الكوفة من القبائل المهاجرة اليها ، أرادوا الحصول على استقرار المدينة ، من دون الامتثال لقوانينها ، ولا الدفاع عن ذلك الاستقرار .
كانت القبائل تدير نفسها بنفسها ، ويقودها رأس ترتضيه من افرادها ، وكانت الحواضر المدنية في الجزيرة العربية ،تقتصر على المدينة القبلية كمكة تحت حكم قريش ، والمدينة (يثرب) تحت حكم الاوس والخزرج ، وحين دخل الإسلام وساد ،لم يتغير الوضع كثيراً في الجوهر ، الا بامتداد سيادة قريش على بقية القبائل ، ضمن العاصمة الدينية المعروفة للعرب (مكّة) و العاصمة السياسية للمسلمين متمثلا في قريش كذلك، أي المدينة .
كان معاوية قد اختار دمشق ، المدينة المستقرة والعريقة في تقاليد المدن ، التي شهدت كذلك حكم الطغاة والفتن منذ عهود بعيدة ,لذا فمجيء حاكم طاغية لم يكن خارج تقاليدها .
اما الامام علي فقد انشأ مدينة جديدة في كل شيء . صحيح انها بالقرب من عاصمة عربية قديمة (الحيرة) ، الا انها كانت اشبه بدويلة منها الى عاصمة ، فكان سكانها من النبط قد ذابوا بين المسلمين .
كانت الكوفة هي الحدّ الفاصل بين مدينة وليدة ، حاولت الاستفادة من الإرث الرافديني في القانون ، وشخصية الامام علي و رؤيته للعدالة والمساواة ، ،وبين سطوة قريش الدينية ، وتفلّت القبائل المجتمعية في مكان واحد ، من قانون يطبّق عليها جميعاً ، بقوة الحجّة ، لا بقوة السيف ، وهكذا كان على الامام علي ان يواجه ثلاث إشكالات دفعة واحدة : (حداثة النشوء في المدينة وموروثات القبائل ، ومتطلبات القانون المنشدّ نحو الانسان الملتزم) في الوقت عينه ، لذا واجهت التجربة تلك المصائب ، وان نجحت في زرع ازمنة ، في بذور عدالة بعد قرون عديدة.

من كتاب (شيعة ضد الشيعة ) قيد الصدور.


ـــــــــــــــــ