الخميس - 12 ديسمبر 2024

الصيام جنة من النار / 2

الخميس - 12 ديسمبر 2024

عبود مزهر الكرخي ||

ونكمل مبحثا فالصوم هو صوم الحواس كما ذكرنا من قبل أي صوم الجوارح التي يملكها الإنسان ، وقد وردت عدة آيات في القرآن تشير ان الحواس والتي هي بمعنى أدق الجوارح هي كلها تكون مسؤولة ويحاسب الإنسان عليها في يوم القيامة ، حيث اشار الله سبحانه وتعالى بقوله في محكم كتابه بقوله : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } (1).
أي أنها كلها تكون مسؤولة من قبل الإنسان ليتم حسابه عند يوم الحساب ، وحتى أنها بقدرة الله تنطق لتخبر عما أقترفه المرء من معاصي وذنوب وحتى اعمال الخير وقد ذكرها جل وعلا في الآية الكريمة التي هي : { وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } (2).
فهذا الجلد ، لتنسحب هذه النطق والشهادات على باقي الحواس الأخرى اليد والعين واللسان وغيرها ، ولهذا كان من وجود علاقة بين صوم الجوارح وصوم رمضان، فما هي هذه العلاقة؟
ولو رجعنا إلى الآية التي ذكرناها في الجزء الأول والتي هي : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}؟ ، ومعنى الآية: أي تتقون الله بالكف عن الحرام وفعل الطاعة بصومكم. قال ابن كثير رحمه الله: “لأن الصوم فيه تزكية للبدن، وتضييق لمسالك الشيطان” (3).
ومن هنا كانت علاقة سببية بين هذين الصومين(اي صوم رمضان وصوم الجوارح)فالصوم هو قامع للشهوات لأن المؤمنين قد وصفهم في كتابه الكريم (الحافظين فروجهم والحافظات)بعد ذكر الصائمين والصائمات بقوله : {…وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } (4)، واجتناب الموبقات ولكل المعاصي والفواحش ما ظهر منها وما بطن.
ولهذا كان الصوم من العبادات التي تعمل على تهذيب النفس وتقويمها وتخليصها من كل الأدران والشوائب التي فيها ، والصوم هو عبادة عظيمة ، وهي عند أهل السنة والجماعة من ضمن الركن الرابع من أركان الإسلام وقبل الحج لتبين اهمية الصوم ، ولتكون عند الشيعة في فروع الدين والصوم يحتل الفرع الثاني بعد الصلاة.
ولو تعمقنا في أهمية الصوم نجد أن الله عز وجل أمر بالصوم في كثير من الكفارات؛ في كفارة قتل الخطأ، والحنث في الأيمان، وقتل الصيد حال الإحرام، والظهار؛ لما له من أثر كبير في تحقيق التقوى وتهذيب الأخلاق. ، لأن الصوم هي تعمل على خلق المؤمن ذو الخلق الحسن والجميل لأنه وكما يعرف أن حسن الخلق مبدأ أساسي في ديننا، لأنه بُني على الأخلاق، لذلك قيل: “لا إيمان بلا أخلاق”.
فلماذا كان الصوم سبباً لصوم الجوارح واستقامتها؟
لأن الصوم عبادة تزكي النفوس بها، وتتسامى الأرواح بسببها من حضيض البهيمية، ومن سمت روحه وطهرت نفسه لم تأنس بمعصية الله، فالصائم يعلم أنه ترك ما أحل الله تعالى تقرباً إليه، فكيف يترك ما أحل الله ويقع فيما حرمه عليه ؟!.
وهذه العلاقة السببية بين صوم رمضان وصوم الجوارح يجب أن يفهمها العبد المؤمن ، وأن شهر رمضان هو مدرسة يتعلم فيها المسلم كيف يعمل بالكف عن المحارم وترك العصيان وكل الأمور التي تجلب غضب رب السماوات العلى ، والتقرب إلى سبحانه وتعالى من خلال هذا الشهر الفضيل وعدم ارتكاب المعاصي والمحارم لأنه (لا يعبد الله من حيث يعصى).
ولذلك جاءت خطبة النبي محمد في شهر رمضان والتي نورد منها ما يخص مبحثنا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام، قال : { …وَتَصَدَّقُوا عَلَى فُقَرَائِكُم وَمَسَاكِينِكُم، وَوَقِّرُوا كِبَارَكُم، وَارحَمُوا صِغَارَكُم، وَصِلُوا أَرحَامَكُم، وَاحفَظُوا أَلسِنَتَكُم، وَغُضُّوا عَمَّا لا يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيهِ أَبصَارَكُم، وَعَمَّا لا يَحِلُّ الاستِمَاعُ إِلَيهِ أَسمَاعَكُم. وَتَحَنَّنُوا عَلَى أَيتَامِ النَّاسِ يُتَحَنَّن عَلَى أَيتَامِكُم، وَتُوبُوا إِلَى الله مِن ذُنُوبِكُم، وَارفَعُوا إِلَيهِ أَيدِيَكُم بِالدُّعَاءِ فِي أَوقَاتِ صَلاتِكُم، فَإِنَّهَا أَفضَلُ السَّاعَاتِ، يَنظُرُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا بِالرَّحمَةِ إِلَى عِبَادِهِ، يُجِيبُهُم إِذَا نَاجَوهُ، وَيُلَبِّيهِم إِذَا نَادَوهُ، وَيُعطِيهِم إِذَا سَأَلُوهُ، وَيَستَجِيبُ لَهُم إِذَا دَعَوهُ.
أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ أَنفُسَكُم مَرهُونَةٌ بِأَعمَالِكُم، فَفُكُّوهَا بِاستِغفَارِكُم، وَظُهُورَكُم ثَقِيلَةٌ مِن أَوزَارِكُم، فَخَفِّفُوا عَنهَا بِطُولِ سُجُودِكُم. وَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ أَقسَمَ بِعِزَّتِهِ أَن لا يُعَذِّبَ المُصَلِّينَ وَالسَّاجِدِينَ، وَأَن لا يُرَوِّعَهُم بِالنَّارِ يَومَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ…. أَيُّهَا النَّاسُ! مَن حَسَّنَ مِنكُم فِي هَذَا الشَّهرِ خُلُقَهُ، كَانَ لَهُ جَوَازاً عَلَى الصِّرَاطِ يَومَ تَزِلُّ فِيهِ الأَقدَامُ، وَمَن خَفَّفَ فِي هَذَا الشَّهرِ عَمَّا مَلَكَت يَمِينُهُ، خَفَّفَ اللهُ عَلَيهِ حِسَابَهُ، وَمَن كَفَّ فِيهِ شَرَّهُ، كَفَّ اللهُ عَنهُ غَضَبَهُ يَومَ يَلقَاهُ، وَمَن أَكرَمَ فِيهِ يَتِيماً، أَكرَمَهُ اللهُ يَومَ يَلقَاهُ، وَمَن وَصَلَ فِيهِ رَحِمَهُ وَصَلَهُ اللهُ بِرَحمَتِهِ يَومَ يَلقَاهُ…}، فقام فقَالَ أَمِيرُ المُؤمِنِينَ عليُّ بن أبي طالب عليه السلام: فَقُمتُ فَقُلتُ: يَا رَسُولَ الله! مَا أَفضَلُ الأَعمَالِ فِي هَذَا الشَّهرِ؟
فَقَالَ: “يَا أَبَا الحَسَنِ! أَفضَلُ الأَعمَالِ فِي هَذَا الشَّهرِ: الوَرَعُ عَن مَحَارِمِ الله عزَّ وجلَّ” ثمُّ بكى فقلتُ: يَا رسولَ اللهِ ما يبُكيكَ؟ فقالَ: “يَا علي أبكي لما يُستَحَلُ منكَ في هذا الشهرِ كأنّي بِكَ وأنتَ تُصلّي لربِّكَ وَقَد انبعثَ أشقى الأوَّلينَ والآخرينَ شقيقُ عاقرِ ناقةِ ثمود فضربَكَ ضربةً على قرنِكَ فخضبَ منها لحيتَك” (5).
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر :
1 ـ [الإسراء : 36].
2 ـ [فصلت : 21].
3 ـ [تفسير أبن كثير: (1/497)].
4 ـ [ الأحزاب : 35 ].
5 ـ وسائل الشيعة ( تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة ) : 10 / 313 ، حديث رقم : 13494 ، للشيخ محمد بن الحسن بن علي ، المعروف بالحُر العاملي ، المولود سنة : 1033 هجرية بجبل عامل لبنان ، و المتوفى سنة : 1104 هجرية بمشهد الإمام الرضا ( عليه السَّلام ) و المدفون بها ، طبعة : مؤسسة آل البيت ، سنة : 1409 هجرية ، قم / إيران. لكافي: ج6 ص438 ح1 و ح4، ص442 ح7. راجع أمالي الصدوق: ص93 المجلس العشرون، وعيون أخبار الرضا (عليه السلام) : ج1 ص295 ح53، وفضائل الأشهر الثلاثة: ص77 ، ومصباح الكفعمي: ص633 الفصل الثاني، وروضة الواعظين: ص345.