الأحد - 12 يناير 2025

نظرات في العرف العشائري..(٢)

الأحد - 12 يناير 2025


تقي مطشر الشحماني ||

أما باقي العاهات التي قد تحصل وتكون أبسط من ذلك فتعوض بالمال، وقد اتيح لي أن أُشاهد وانا صبي صغير احدى حوادث الفصول التي لا تزال عالقة في ذهني، وهي: حدث وان تشاجر اثنان من ابناء عشيرتنا فأصاب احدهم الأخر بجرح في شفته العليا اي تحت أنفه مما أدى بعد شفائه الى مساحة صغيرة لا ينبت فيها شعر شاربه بحيث اصبح موضع الأصابة واضحا، الا أن الاخير قد عوض عن ذلك بأن اطال شاربه ليصبح كثا حتى يغطي تلك المساحة، وعند التحكيم لدى (الفراضة)(٥) كان المصاب قد عدل شاربه بحيث اصبح موضع الاصابة واضحا وقد تنبه (الفراضة) لذلك فأمر المصاب ان يبتعد عنه مسافة (دِوّارة)(٦) وأن يمسد شاربه (اي يعدله) ثم امر احد الأشخاص ان يقيس تلك المسافة بينه (اي الفراضة) وبين المصاب بالخطوات فكانت خمسة عشرة خطوة، فحكم له عن كل خطوة بمئتين وخمسين فلسا تؤخد من المعتدي. الا أنه جعلها دينارا لكل خطوة تلافيا لما قد يحدث ودُفع للمصاب خمسة عشرة دينارا وتصالح الطرفان. وكان غاية الفراضة من ذلك ان اي شخص يلتقي مع شخص أخر في الريف فأنه يسلم عليه من هذه المسافة، وعندما نظر الفراضة الى المصاب بعد تعديل شاربه وجد ان العاهة لاتظهر من خلال هذه المسافة وعلى ذلك بنى حكمه الذي اصدره.
ومن الملاحظ ان اكثر الفصول (الديات) التي تحدث بين ابناء العشائر يكون بالنساء، وهذا قد يكون مدعاة للأستغراب بالنسبة إلى الكثير الذين لم يطلعوا على حقيقة المجتمع الريفي وطرق معيشته وقد استفسرت من بعض الشيوخ الكبار بالسن حول الموضوع وعن ماهية الحكمة التي وضعها شارع العرف العشائري في الفصل بالنساء، فبينوا أن ذلك مرده الى استحكام العداء بين العشائر التي يقع النزاع بينها رغم فض النزاع من قبل المحكمين والفرضاء الأمر الذي يتطلب أنهاء مثل هذه الخصومات والمنازعات بالطرق الأكثر ضمانا وهي ان يدفع المعتدي الدية (الفصل) نساء على اهبة الزواج وتسمى (جدمية)(٧) فيتزوج بها ذوي المجني عليه (اي أبنائه او اخوته أو أبناء عموته وهم الأقرب أو الأحق بأخذ الثار) وحكمة الشارع أنهن سيلدن للعشيرة التي منحن (فصليات) لها وبذلك تكون تلك العشيرة بحكم الواقع الجديد الذي نتج عن الزواج مرتبطة برباط المصاهرة مع العشيرة المعتدية وبما أن حالة الثأر قد تتأخر كثيرا فأن ذلك سيمنح مجالا اكثر لتسوية القضية حيث سيكبر أبناء (الفصليات) وهؤلاء حتما سيحنون الى اخوالهم بالأضافة الى التزاور الذي يحدث بين النساء واهلهن من جهة وأزواجهن من جهة اخرى وبذلك تحل القضية اصلا فلا يعقل ان يعتدي الزوج على اخوة زوجته أو ابويها ولديه ابناء كبار منها وهم حتما سيمنعون ذلك عن اخوالهم، وهذا هو مجمل ما قصده الشارع العرفي للفصل بالنساء والتمسك به، ولذلك نرى الكثير من شعرائهم ومهاويلهم وشاعراتهم يؤكدون على قدسية الخال وحرمة المساس به حتى قيل ان (الخال والد) و(ثلثين الولد عل الخال).. وكان للخال حصة الأسد في اهازيجهم (هوساتهم):
١- خالك طيح اوياه أمي الوصتني.
٢- خالي اهناه اركض گل لامك.
٣- ويه الخال إبن اخته يعارچ.
٤- نحلف بيه الخال يشور
٥- اذا حلگك اطبگه خوينس وموزين
إلك بالولد حصه وأنه الي ثلثين
العرب تنشد الزلمه عن خواله منين
كون أنمر ثلثينه الخاله.
وكذلك يقال ان (النساء عروگ مران) وهو شجر ينبت بالاهوار، تتشابك جذوره مع بعضها من الاسفل وتستقل اغصانه عن بعضها. وهكذا.
لكن هذا لايمكن ان ينسينا او ان نتغاضى عن ان المرأة الفصلية قليلة الشأن في العشيرة التي منحت لها (فصلا) وقد تُعامل كالخادمة ولا حقوق لها اصلا وتسام كما يسام العبيد احيانا.. وقد ورد على لسان كثير من النساء عندما تغمط حقوقهن ان يصرخن:
– شنهي ماخذني فصلية.
يتبع…


ـــــــــــــــ