من شهداء الكلمة الحسينية:عواطف الحمداني؛ صمتٌ في الأرض وصرخة في السماء!
د.أمل الأسدي ||
في أثناء الدفن؛ كلما أرادوا حملها تساقط لحمها، بدا لونها أسود، كأن جلدها مصبوغ، وشعرها يتساقط أكواما!! فمن هي؟ وما قصتها؟
إنها عواطف نوري الحمداني، زهرةٌ ولدت عام 1961 في منطقة الحرية علی أعتاب الكاظمية المقدسة، ثم انتقل أهلها للسكن في منطقة القادسية، وصلت الی كلية الهندسة/ الجامعة التكنولوجية، وكانت طيبةً، هادئة، متواضعة، لم يغير ثراء أهلها بساطتها وتلقائيتها، جميلة يشع وجهها نورا، محجبة تحيط بها هالة من الوقار!!
عواطف وصلت الی المرحلة الثالثة، هندسة الكترونيك،
وستصبح عروسا، فقد تقدم لخطبتها (علي ناصر الشاوي) ولكن الظلم كان يخيم علی حياة العراقيين وبدأ يتصاعد شيئا فشيئا، فالهوية جريمة، والتدين جريمة، والعلم جريمة، واتباع العلماء جريمة!!
لايحق لأحدٍ رفض الظلم!! إلا أن طريق الثائرين معبد بالتضحيات، ولايُزال أثره ولا يمحی.
وفي خضم التقارير والملاحقات التي أخذت تنتشر في المجتمع كالسرطان، تزوج علي الشاوي وعواطف الحمداني، واستأجرا بيتا صغيرا، كان ذلك في عام 1981، كانت تلك الفترة، فترةً نخبوية واعية، فللنخب فكرٌ ومنهجٌ واستعداد للتضحية، ومثلما توجد نخب من الرجال، توجد نخب نسوية عاملة، تری أن السكوت والخضوع للظالم يؤدي الی طغاينه واستبداده، وهذا سيحوّل حياة الناس الی جحيم، لذا كانت عواطف تؤيد زوجها في مـعارضة النـظام العـفلقي، وتؤازره في ذلك، ولم تتصور حجم ما ستواجهه وما ستلاقيه من ظلم وعذاب، فإن كان علی المــوت، فالمــوت هيّن!!
لم تكن تتخيل مدی إجـــرامـهم، ولم تتوقع أنهم سيشملون أسرتها بذلك!! فما علاقة الزوجة والأخ والأم وابنة الخالة وابن الخال وابنة العم؟!!
وسرعان ما أصبحت عواطف في الشـعبة الخامسة، كانت تحمل في أحشائها جنينا لا تعلم مصيره وماذا سيواجه؟!! أخفت أمر حملها ولم تتحدث، وقررت الصبر والتوكل علی الله، إلا أنها وقعـت بيد وحــش بشـري وهو الرائد عامر، الملقب بـ(عامر الذيب) إذ كان قلبه بلارحمة، وكان يتفنن في تعذيــب الضحايا، ولاسيما النساء، فهد يتـلذذ بإهانتـهن واستعمال أبشــع الأساليب في تــعذيـبهن(١).
مرت الليالي ثقيلة علی عواطف، فالحياة أثقل من أن يتمكن المرء من التحــدث، ثقل الألـم والوجع، ثقل الإهــانة، ثقل الظــلم، ثقل المستقبل المجهول، وثقل طفلها ومصيره!! ومع هذه الأثقال حان موعد ولادة عواطف، فنقلوها الی مستوصف قريب لمدة يوم واحد، ولدت وعادت بطفلة أسمتها(دعاء) علّ اسم (دعاء) يكون مفتاحا للفرج!! وكانت الأم وابنتها بحال سيئة جدا، تعاون السجينات وجمعن لها أقمشة من الملابس الإضافية التي ترتديها بعض الأخوات، وساعدنها حتی تحسنت حال الطفلة… ومازالت عواطف تنتظر محاكمـتها، فقد تم تأجيلها حتی تلد كي لايشملها قانون تخفيض الحكم من الإعــدام الی المؤبد للمرأة الحامل، ولو أن القوانيين كانت كذبةً، فأية قوانيين تلك التي تهين الأبرياء وتعـذبهـم وتسلبهم حياتهم؟
علی أية حال، جاء يوم المـحاكمة، وذهبت عواطف حاملة ابنتها معها، هناك رأت زوجها، دفعت إليه الطفلة، اخذ يقبلها في مشهد مؤثر فرض السكون علی القاعة، ثم قالت له عواطف:” صدقني ياعلي، أيام وليالي وهي أمامي وفي حضني وأرضعها؛ ولكني كنتُ أحاول عدم التأمل فيها أو النظر إليها كي لا أتعلق بها”(٢)
وماهي إلا دقائق وصدر الحكم علی الزوجين بالإعــدام من دون التردد ولو لثانية!!! كان ذلك في 1982.
وصلت عواطف الی سـجن الرشاد، وبانتظارها حكم يوازي الحكم بالإعــدام، بانتظارها قرار ستأخذه هي!!
إذ يجب عليها أن تسلم ابنتها لأهلها في أول مواجهة، لابد أن تحافظ علی البرعم النقي وتنقله بعيدا عن عصابة الشـياطين!! ولمّا حان الموعد، كانت عواطف تتقطع وتموت وتحيا ألف مرة!!!
ومضت تلك الليلة سريعا، ولم يكفها الوقت لترتوي من طفلتها، وجاء الصباح ومعه مشهد التوديع الذي أبكی حتی الجدران!!
أخذت تقبّل ابنتها في وجهها وفي يدها وقدميها، وأصابعها اصبعا اصبعا!! ولم يجرؤ أحد علی فصل الرضيعة عن أمها، حتی الرقيبة لم تتجرأ!!
وبما أن أبناء علي(ع) لايكفون عن ذكر الحسين(ع)؛ قالت إحدی السجينات: ساعد الله قلبك يا أباعبد الله وأنت تودع عبد الله الرضيع مذبــوحا!!
هنا، انتبهت عواطف، وتغلبت علی أمومتها، وسلمت الطفلة!! وهكذا غادرت (دعاء) وبقي عطرها يملأ عالم (عواطف).
يوم الرحيل:
في سيارة مغلقة مظلمة رحلت عواطف وكان معها الشهيدتان فاطمة الحسيني، وأمل الربيعي، التصقت عواطف بالنافذة الصغيرة، تنظر الی بغداد وتشكو إليها وتعاتبها، تروي لها ما حلّ بهم من عــذاب وتودعها!!
وصلت السيارة الی السجن، انزلوهن في قاعة كبيرة، يفصل بينها وبين قاعة الرجال المحكومين نافذة صغيرة!!
كان مهرجانا للإعــدام الجماعي، وفي وقت الظهيرة لاتسمع الا صوتهم وهم يصلون صلاتهم الاخيرة، وتری حُزم الضوء تشع من غرفتهم!!
وها هي عواطف تری الضبـاع وهي تسحب زوجها الشهيد علي الشاوي علی الأرض، تبكي بحرقة وألم فلايفصلها عنه سوی النافذة والجدار!!
حل المساء وقضم الظلام أرواح الأبرياء وأجّل الجــلادون إعــدام عواطف وأمل، بينما صادروا أنفاس العلوية فاطمة!!
إنه مصيركِ ياعواطف، حتی تتــعذبي أكثر وأنت ترين زوجك جثةً هامدة يسحلها الجلاد!!
وحين خرجت عواطف رمت بنفسها علی المكان الذي مرّ منه جسد الشهيد، تقبّله بحسرة وحرقة لايعلمها إلا الله تعالی!!
ثم عادت عواطف وأمل من جديد الی سجن الرشاد!
ـ عشرون يوما وحان موعد الرحيل مرة أخری، كانت زاهدة غير مكترثة بالحياة، فهي متلهفة للشهادة، مازالت كلماتها ترن في آذان من سمعها: هذا خط الحسين(ع) ولابد من الإصرار والاستمرار…
أعــدموها وحلقت روحها، إلا أن جسدها كان مطعونا، أسود، ويتساقط لحمها كقطع متهرئة، يمسكونها من الساقين فتسقط، من اليدين تسقط!!
شعرها يتساقط أكواما، إنهم حقونها بالمواد الكيميائية المسرطنة قبل إعـــدامها، جسدها كان حقل تجاربٍ لهم!!
وبعد هذه التجارب والحقن، أعدومها بالكـرسـي الكهـربائي كي لايُفتضح أمر التجارب الكيميائية المحظورة دوليا!!
تری ماذا فعلتِ أيتها السيدة العابدة، حتی يحل بك كل هذا العذاب؟!
وحين تجتمع الخصوم عند الله تعالی، ماذا ستطلبين؟؟
وهل ستذكرين ماقاله اللواء مسلم الجبوري لكِ ولزوجك في المرافعة الأولی: قد نحتاج إلى مـشـنقة صغيرة لهذه الطفلة لأنّها رضعت حليبكم الحـاقد!!
عواطف، قصتكِ منجمٌ للوعي و ثورةٌ للعواطف!!(٣)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
١- ينظر مذكرات سجــينة، فاطمة العراقي، علي العراقي:٣٠٢- ٣٠٧
٢- ينظر: المصدر نفسه: ٣١٨
٤- ينظر، المصدر نفسه: ٢٨٧- ٣٤٢، ورواية عواطف وأمل، كمال السيد
ـــــــــــــــ