كربلاء ملحمةُ السماء الكبرى…
علي السراي ||
ألا وإن فهمي لقاصر، وقلمي لعاجزٍ ، بل وأقل وأحقر من أن يتناول بمِدادهِ قبسُ من ملحمة السماء أو طرفٌ منها… فشهادتي مجروحة، والحيرة موزعة بين رجاء الحروف وأمنيات الكلمات، يحدوهما الأمل والتوكل على الله والبدأ بإسم رب الحسين ونقول…
ما كربلاء إلا آية من آيات الله، تجلى فيها الصراع الأزلي، بين قوى الخير وقوى الشر، بين النور والظلام، بين جنود العقل و الجهل، بين أن يسمو الإنسان إلى أعلى مقامات الكمال ، أو أن يتسافل إلى أقصى درجات الهاوية، بين أن يموت المرء ليَّهِبَ الحياة، أو من يموت وهو حي بين الاحياء، هي لعمري جدلية (( سِيزيف الإغريقي )) التي تتكرر كل يوم، بل في كل ساعة ولحظة…وتجسيد واقعي آني حيّ لصراع إرادات إلى (( يوم الوقت المعلوم)) ، صراع بين وعد الله ( لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وممن تبعك ) ووعد الشيطان ( فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ) حزبين لاثالث لهما… حزب الله وحزب الشيطان…
أن ملحمة الفداء هذه قد اختزلت فصولها كل أسرار الكون، بكينونتها، وماهيتها، عمقها، وفلسفتها، معانيها، وأهدافها، فلم يتجلى الكفر يوماً بأوضحَ منهُ في ذلك اليوم، في قبالة الحق الذي تجسد بذاته وجوهره وحقيقته المجردة، فكانت بحقّ الفصل والفاصل والفيّصل، إذ كان لابد أن تكون هنالك كربلاء وفق مقاييس العدل الالهي كي تكون محطة للإبتلاءات والإختبارات والإمتحانات،
(( أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَٰاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَا رَسُولِهِۦ وَلَا ٱلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ۚ وَٱللَّهُ خَبِيرٌۢ بِمَا تَعْمَلُونَ )) إذاً هي محصلة مجموعة حسابات ومحطة غربال وتمحيص يتميز فيها الغث من السمين، والشقيّ من السعيد، والكافر من المؤمن.
لقد قرأنا في كُتب التأريخ عن ملحمة الإلياذة والاوديسة و الشاهنامة وكلكامش وعن الأساطير الرومانية واليونانية والإغريقية، وروعة الخيال الخصب لمؤلفي تلك الملاحم من الفلاسفة كهوميروس والفردوسي وغيرهم من الذين استطاعوا مزج الواقع بالخيال، والحقيقة بالإسطورة، والحكمة بالرمزية التي تتحدث عن قوى الخير والشر، وكيف أن أبطال الملاحم يقارعون ألهة الظلم والظلام لينتصر في النهاية الحقُ والنورُ معاً، ولكنهم يقيناً لم ولن يصلوا حتى إلى عتبة أول حرف من حروف ملحمة كربلاء السماوية، والتي هي أعظم وأكبر من أن تؤطر بمتضادين إثنين… وذلك القائد الرباني الذي أحكم فصول ملحمته فأبدع في الإخراج والتنفيذ مع صحبهِ الذين لبسوا القلوب على الدروع وتفانوا في أداء أدوارهم، وتسابقوا يتفادون بأرواحهم على منحر التوحيد الإلهي المقدس ، يتقدمهم صدر الغاضرية حامل اللواء أبا الفضل العباس عليه السلام لإعلاء كلمة الله والدفاع عن قائدهم الحسين السِبط، بصبر تعجبت منه حتى ملائكة السماء، فكان العطاء الإلهي لهم خلوداً أبدياً وحياة مُنعمةً لا فناء لها…
واهمٌ من يعتقد أن ثورة الحسين عليه السلام كانت حصيلة أحداث لَحَظيّة أو نِتاج عوامل آنية أدت بالنهاية إلى حدوثها… إطلاقاً.. بل قد رُسمت معالمها منذ أن خلق الله أدم عليه السلام بل حتى قبل ذلك، فلا مَلَكّ مُقرب ولا نبيٌّ مُرسل ولا وصيّ إلا وكان يعلم أن يومَ كربلاءِ آتٍ لامحالة، وستكون نقطة تحول كوني ترتبط أحداثها بجدار الزمن لتلعبَ دوراً محوراً في التأثير على الاحداث المفصلية، كونها تشكل الحد الفاصل بين الحق وأهله والباطل وأدواته، ولهذا كان الكل ينتظر ويترقب تلك التراجيديا الأزلية الدامية للحسين السِبط عليه السلام، وما أن جاء أمر الله وحان حينها حتى كأن الكون قد توقف وتسمّر في مكانه، وإن الجمع الملكوتي بقيادة النبي الخاتم صل الله عليه وآله كانوا ينظرون إلى مسرح يوم العاشر وتلك الظهيرة الحمراء ويشاهدون آيات القربان العظيم تتجلى أمامهم تباعاً حتى بالطفل الرضيع (تركتُ الخلقَ طرَّاً في هواك، وايتمتُ العيال لكي أراك، فلو قطَّعتني في الحبِّ إرباً، لما مال الفؤاد إلى سواك ) … كربلاء يومها لم تكن ساحة حرب وطِعان… إطلاقاً…بل سوق جرت فيه أعظم عملية بيع وشراء بين الله جل وعلا ومجموعة من عباده منذ بدء الخليقة إلى يوم القيامة، بسم الله الرحمن الرحيم (( إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ )) صدق الله العلي العظيم ….
في ذلك اليوم الدامي، ومن بين شروخ جدران عالم الذّر ، كانت هنالك أُمم أُخرى من البشر ترقبُ مايحدث وقد أَقَضّ قَضّهُم وقضيضهُم ذلك النداء الذي أصمّ مسامع الثقلين ( هل من ناصر ينصرنا ) فتجلى في شريط تلك اللحظات الكونية سؤال البضعة الطاهرة لأبيها حينما أخبرها عند ولادة الحسين أن الأمة ستغدر به وتقتله (( أبي من سيبكي ولدي الحسين ؟؟؟ فكان الجواب بنيّ اعلمي أنّ الله سيجعل له شيعة يبكونه ويقيمون عزاءه إلى يوم القيامة، فلا أدخل الجنّة إلّا وهم معي )) …
لقد كانت كربلاء عُصارة معارك الشرف والكرامة ،وخلاصة معارك الانبياء والمرسلين، وزبدة معترك الحق ضد الباطل، وحجر الزاوية لكل الثورات اللاحقة ورمزاً يحتذى به، فالحسين عليه السلام استطاع بذاك الدم الطاهر هدم دين الشرك وصروح الكفر وأعمدة الظلال، أولم يتعلم غاندي من الحسين كيف يكون مظلوماً فينتصر.؟؟؟
نعم… لقد حُبس النصر العسكري الآني في تلك الملحمة الكبرى، إلا أن الأبعاد المنهجية والأهداف العملية الإستراتيجية، السياسية منها و الإصلاحية والإجتماعية التي رسمها وخطط لها الحسين السبط كانت كفيلة لتقويم الإعوجاج الحاصل والانحراف الذي أصاب الخط البياني لدين الله وتوحيده في الارض (( ألا تَرَونَ إلى الحق لا يُعمل به، والباطل لا يُتناهى عنه، فَليَرغبِ المؤمنُ في لقاء ربهِ محقاً، فأني لا أرى الموتَ إلّا سعادةً والحياةَ مع الظالمينَ إلّا بَرَما )) وهي صرخة رفض لواقع الامة التي حادتّ عن جادة الحق نتيجة إنقلابها على أعقابها في سقيفة بني ساعدة وتركها للشرعية المتمثلة بأمير المؤمنين علي علي السلام في ذات يوم وفاة النبي الخاتم صل الله عليه وآله…
ويقيناً أن ملحمة الخلود تلك كانت ومازالت وستبقى رسالة لبناء الإنسان، ونهجاً لإرساء معالم العدل الإلهي، ومدرسة حياة يتعلم فيها الإنسان أن يحيا حراً كريماً وليس عبداً لإحد سوى الله، ملحمة يعانق فيها المرء شِفار السيوف والموت تحت ظلالها على العيش في ذُلة وعبودية ودون كرامة.
لقد شخص الإمام الحسين داء الأمة ودوائها، وعَلِمَ أن لاحياة لها إلا بسفك دمائه الطاهرة لإعادة الحياة إلى شجرة الإسلام المحمدي الاصيل، تلك الدماء التي تشظت إلى أممٌ من البشر وبحار من العشاق بزحوف مليونية يطوفون به وحوله بعد أن كان وحيداً غريبًا يحيط به الاشقياء …فاستشهد ليوقظ أمة…
و يقيناً… تبقى الأرواح تهفو، والعيون ترنو لرؤية ذلك الفارس القادم من بطنان كربلاء وهو يقفُ بين الركن والمقام ينادي، ألا يا أهل العالم أنا الإمام القائم والصمصام المنتقم.
وإن جدي الحسين قتلوه عطشانا… فيبدأ الكون بكتابة ملحمة جديدة… مِدادها نجيع الحسين…يحدوها صدى صوت خافت يخرج من بين الخيام المشتعلة (( إلهي إن كان هذا يُرضيك فخذ حتى ترضى )) …
وتبقى كربلاء …
ملحمة السماء ….والحسين فيها ثأر الله المؤجل