قصة قد تكون مملة..تتكرر!
عبدالملك سام ||
قيل أن القصص هي أعظم هبات التاريخ، وكل شيء يندثر عدا تلك القصص التي تنتقل عبر الأجيال متخطية عقبة الزمان، وإن كانت قيمتها الحقيقية تكمن في أنها تتكرر بإستمرار، فالتاريخ يعيد نفسه.. تخيل معي أن تروى قصتك أو قصة أي شخص آخر أو قصة شعب بأكمله بعد قرون؟! هذا يعني أنها قصة تستحق أن تبقى حتى تنتقل من جيل إلى جيل لأن فيها إلهام أو عبرة، بينما ملايين القصص ليست كذلك!
أحيانا تعيش القصص التاريخية لأنها قادرة على أن تلهم الآخرين بما فيها من نماذج تحكي عن الشجاعة والبطولة والإباء والتفاني، أو أن تعيش لأن فيها أمثلة يستفاد منها لما فيها من عبرة كقصص الهزيمة والخيانة والأطماع والمعاناة وغيرها من القصص التي سودت صفحات التاريخ.. فأي قصة سنكتب نحن؟!
قصة اليوم فيها إلهام وعبرة، وأعتقد أنها قصة تستحق أن تعيش لقرون قادمة، بدأت بإحتلال فرنسي لفيتنام عام 1859م، وكعادة كل محتل لابد أن يتعامل بإجرام بحق الشعب الذي ينزف ويُنتهك ويُنهب ويٌستعبد. ثم لابد وحتما أن توجد المقاومة، وتتصاعد المقاومة لأن الناس وصلوا لقناعة أن الموت أعز مما يذيقهم المحتل من ويلات، ثم تأتي مفاوضات فهدنة لبضع سنين يتعهد فيها المحتل أن يرحل من جنوب فيتنام.. ولكن ما حدث لاحقا مغاير تماما لأي أتفاق!
تم تسليم الجنوب الفيتنامي من الفرنسيين للأمريكيين الذين أرسلوا “خبراء” إلى الجنوب عام 1958م، وبعد وصولهم بفترة قاموا بإنشاء قواعد عسكرية، وحملوا معهم قساوسة لمحاربة البوذية بعد أن انشأوا حكومة موالية لهم لا تعارض معاداة الشمال (كما حدث في كوريا وتايوان وغيرها من البلدان في أفريقيا وأمريكا الجنوبية)، ثم أنهم أفتعلوا حادثا لإحدى سفنهم قبل أنتهاء المدة المتفق عليها لرحيلهم، وعقب الحادث أقر الكونجرس أرسال 200 الف جندي أمريكي إضافي إلى فيتنام!
أمريكا، وحتى العام 1975م أستخدمت في هذا البلد الصغير ما يزيد عن سبعة ملايين طن من مادة (TNT)، أي ثلاثة أضعاف ما استخدم في الحرب العالمية الثانية! وقتلت ما يقارب أربعة ملايين إنسان من فيتنام والدول المجاورة لها غالبيتهم من المدنيين، وارتكبت أبشع الجرائم بحق البشر هناك، وقد وصلت وحشيتهم إلى مستويات لا يمكن أن يصدقها عقل، فمن أغتصاب النساء والتبرز عليهن قبل حرقهن، إلى اللعب برؤوس الأطفال التي قطعت أمام أسرهم، إلى إحراق قرى بأكملها بقنابل النابالم الحارقة… وغيرها من الجرائم البشعة التي لم يسلم من لظاها حتى الخونة المتعاونين مع الإحتلال!
قامت أمريكا خلال إحتلالها لجنوب فيتنام بأكثر من 4 إنقلابات داخل الحكومة الجنوبية الموالية لها، وقد كانت تأتي بحكومة لتوقع معها عدة اتفاقيات، ثم ترسل لقادة المرتزقة رسائل مفادها أن أمريكا لا تعارض أي انقلاب ضد الحكومة الحالية (الفاشلة)، ثم توعز للذين قاموا بالإنقلاب بتصفية الحكومة السابقة وقتل أفرادها بالكامل! وهكذا دواليك حتى لم يبقى شيء ليتنازل عنه الخونة للأمريكيين..
ما الشيء الملهم أو العبرة في قصة اليوم؟! كل ما فيها ملهم وفيه عبرة برأيي، خاصة والنظام الأمريكي يحب أن يكرر تجاربه السابقة مستغلا هيمنته على العالم، لكن درس فيتنام رغم محاولة التغييب سيظل الدرس الأوضح، والذي يمكن تلخيصه فيما يلي:
– كلما قاومت أسرع كلما عانيت أقل، وكلما تأخرت ستتمنى أن يأتيك الموت أسرع.
– جشع الإحتلال وجرائمه ليس لها حدود أو قوانين أو شرائع.
– لن يرحم المحتل أحدا حتى أولئك الذين خضعوا له وتأمروا معه، والتاريخ خير شاهد.
– من يعتقد أنه سينجو بخيانته أحمق وبائس، فلا عهد لمحتل (رفضت أمريكا لجوء الخونة إلى أي بلد آخر، وتركتهم ليلاقوا مصيرهم وحدهم).
– سيلعن التاريخ كل خائن حتى بعد مرور الزمن، وستظل آثار خيانته لعقود (حتى اليوم يعاني الآف الفيتنامين من مرض السرطان وتشوهات الأجنة بسبب الأسلحة التي أستخدمتها أمريكا خلال الحرب).
– سيمجد الشعب والتاريخ أولئك الذين وقفوا ضد المحتل حتى بعد رحيلهم، وسيحترم العالم وقوفهم هذا ولو بعد عقود من الزمن.
– عام من المقاومة يمكن أن يختصر أعوام من المعاناة والذل وشلال الدماء الذي أزهق أرواح الملايين، وتدمير بلدان برمتها بعد نهب ثرواتها وضياع حاضرها (تم منع الفيتناميين من أستيراد حتى أقلام الرصاص لكي لا يتعلموا!).
من قال أنها قصة مملة؟!
بالنسبة لي فهي ليست كذلك، ووحدهم من لا يقرأون، وإن قرأوا لا يعتبرون! هم من يمكن أن يعتبروها مملة، ولذلك فعنوان المقال موجه لهم وحدهم، أما نحن فأعتقد أنها قصة تستطيع ان تلهمنا، وأن نجد فيها عبرة نستطيع من خلالها أن نجنب أنفسنا وشعبنا مآسي كثيرة، وأن نكتب أسمائنا وأسم بلدنا في صفحات المجد والكرامة، ولتقرأ قصتنا الاجيال القادمة بفخر وأعتزاز، وأن نقدم على الله بعد مماتنا بقلوب سليمة ومطمئنة.. والعاقبة للمتقين.