الاثنين - 14 اكتوبر 2024
منذ سنة واحدة
الاثنين - 14 اكتوبر 2024

عباس عبود سالم ||

 

خلال فترة الحصار الذي فرضه مجلس الامن الدولي كأجراء عقابي على العراق في  تسعينات القرن الماضي لجأت بغداد  الى منح عقود كبرى لشركات فرنسية في محاولة لكسر الحصار من خلال النافذة الفرنسية .

وهنا وقف مجموعة صحفيين امريكيين امام وزيرة الخارجية الامريكية في حينها مادلين اولبرايت ووجهوا لها السؤال عن ضياع الفرص الاستثمارية الامريكية في العراق؟

ولماذا واشنطن تضحي وباريس هي من يستفيد…؟

هنا قالت اولبرايت بثقة : لا اجيبكم على هذا السؤال!!

فقط اطلب منكم ان تراجعوا جيدا كم تستورد الولايات المتحدة من العطور الفرنسية!!

(اي  ان مقدار  ما تستورده واشنطن من العطور الفرنسية يمثل اضعاف ما يوفره العراق لفرنسا وهي اشارة الى حجم قوة وجبروت وعظمة قدرات واشنطن الاقتصادية )

ولفرنسا مع العراق قصة اخرى، فلم يكن العراق ضمن منظومة الدول الفرونكوفونية يوما، فالعراق الملكي قام بكفالة بريطانية كان فيها النظام الانكليزي هو القدوة والانموذج، وعلى هذا الاساس فان نظام التعليم والادارة تأثر بشكل كبير بالنظام الانكليزي ..

واغلب رجالات العراق الملكي هم من خريجي جامعات ومؤسسات بريطانيا.

لكن خلال الحقبة الجمهورية حاول العراق الخروج من المظلة البريطانية وسعى  حكامه الى الهروب نحو الاتحاد السوفيتي ودول المنظومة الاشتراكية،  لكنهم سرعان ما اكتشفوا عيوب التعامل مع الروس، لهذا دخلت فرنسا كبديل عن بريطانيا ومكمل لروسيا في حقب متقطعة بلغت ذروتها ايام صدام حسين ..

ثم قام العراق الديموقراطي بعد 2003 برعاية امريكية بريطانية مشتركة لم يتمكن ساسة العراق حينها من استيعاب زخمها والاستفادة منها فعاش فترة من التشوه في العلاقات مع الدول الكبرى التي حاولت وضع العراق تحت مظلتها..بعد فترة من جموح وتمرد صدام حسين عن النطام الدولي ..

لكن لفرنسا دائما موقف مختلف وسياسة مختلفة مع العراق فهي في كل مرة  تدخل مجددا مثلما دخلت خلال الثمانيات والتسعينات وشكلت رئة تكنولوجية امنية مهمة لبغداد..

فمفاعل تموز النووي تم بتكنولوجيا فرنسية والاسلحة الاستراتيجية التي مكنت العراق من حسم الحرب مع ايران هي طائرات ( الميراج اف 1) وطائرات (السوبر اتندار) الحاملة لصواريخ (اكسوزيت) التي قدمتها فرنسا للعراق

كما دعمت باريس انظمة الاتصالات والرادارات الدفاعية العراقية وقدمت تكنولوجيا متقدمة  دعمت تسليح  الجيش العراقي حينذاك .

فرانسوا ميتران كان داعما للعراق بقوة خلال حرب الخليج الاولى، ووقف ضد العراق بقوة خلال حرب الخليج الثانية ووجه الدعم الى كردستان على حساب حكومة بغداد خلال سنوات الحصار الاولى ..

فيما كان جاك شيراك معارض بقوة لموقف واشنطن في حرب الخليج الثالثة ويكاد يكون الصوت الاعلى في معارضة الرئيس جورج دبليو بوش.

النتيجة ان فرنسا كانت غائبة عن التحالف الدولي الذي اسقط صدام حسين عام 2003 وكان بقيادة  القوات الامريكية والبريطانية ..

لكنها دخلت بقوة في التحالف الدولي الثاني الذي تم تشكيله للحرب على داعش في 2014 وقادت باريس الجهد الدبلوماسي الدولي لمحاربة الارهاب كونها اكثر من اكتوى بناره، مع مآرب اخرى.

و كان للجهد العسكري الفرنسي دورا  في الحرب على داعش وفي تحرير الموصل لاسيما في تكنولوجيا الاتصالات و مواجهة الطائرات المسيرة.

ويبدو ان باريس تريد الدخول مجددا الى العراق. وهي فرصة يجب استثمارها بالقدر الممكن شرط معرفة معادلة التوازن الدولي وان لاتكون العلاقة مع باريس على حساب لندن وواشنطن ..

فالعراق في وضعه الجيوسياسي ليس ضمن منطقة النفوذ الفرنسي كما لبنان وتونس والجزائر ودول المتوسط..

لكن للعراق اهمية استراتيجة كبرى لدى باريس فقد وصفه جاك شيراك  يوما ما بالبلد العظيم ..

زيارة ماكرون الى لبنان طغت عليها مقابلته مع سيدة الغناء العربي (فيروز) وزيارته الى العراق طغت عليها (الاخطاء البروتوكولية) التي حصلت في مراسيم الاستقبال وتنظيم المؤتمر الصحفي .

لكن على الاستراتيجيين وصناع السياسة العراقيين التخطيط لاندماج حقيقي للعراق ضمن السياسية الدولية والبحث في اسباب الاهتمام الفرنسي التاريخي في العراق.

فعالم اليوم يسير باتجاه نظام اقتصادي (متعدد الاقطاب) ونظام امني (بقطب واحد) يدار من ضفتي الاطلسي واشنطن ولندن،  فيما تسعى فرنسا الى الدخول كطرف ثالث في ادارة هذا النظام من خلال تفعيل دور الناتو وصعود الاتحاد الاوربي مجددا كشريك فاعل في النظام الدولي.

وربما العراق يكتسب اهميته لفرنسا كونه محور ارتكاز لامن الخليج وامن الشرق الاوسط بشكل عام .

لذلك على الاستراتيجيين العراقيين الفصل بين الخطوط السياسية والاقتصادية والامنية في التحليل للخروج بنتائج اقرب الى الدقة ..ومعرفة المساحة المشتركة التي تربط العراق بالقوى الدولية مع الاحتفاظ ببوصلة العلاقات مع دول المظلة داي بريطانيا والولايات المتحدة.

فالتعامل مع اقطاب السياسة الدولية لايتم بالمجاملات والقبل او الكلام المنمق والتصريحات الصحفية ..انما يحتاج الى عقول تستشرف المستقبل كما يحاول البعض الغاء المستقبل من قاموسها والتعامل مع الماضي  تعامل التلميذ مع المحفوظات من النصوص.