الشيعة والسنّة – أمّتان ودينان؟أم طائفتان في دين واحد؟
علي عنبر السعدي ||
استراتيجيات جديدة لخرائط قديمة – دراسة احتمالية
غالباً ماكانت النظرة إلى التاريخ ، تتخذ طابعاً تكرارياً لانقدياً ،فكل مؤرخ ينقل عما سبقه منشدّاً لانتماءاته الطائفية أو الإثنية ،من دون التوقف لمحاكمة النتائج أو التساؤل حولها ،ليتحول التدوين التاريخي من ثم إلى مجرد روايات لمؤلفين غالباً مايلعب الخيال دورا ليس قليلاً فيما يكتبونه ،لذا يتحول الحدث التاريخي عندهم ، إلى مجرد ملهم للسرد الروائي حسبما تجود به قريحة صاحبه .
من البداهات المعروفة في مسألة التاريخ ،إن لكل حدث قد وقع فعلاً ،هناك حدث مواز كان يمتلك حيثيات وقوعه ،لكن التاريخ لايتحدث عما يمكن أن يحصل من نتائج لاحقة ،في حال وقوع الأحداث بغير ما آلت إليه النتائج ،ذلك لأنه يبقي في إطار المحتمل ومن ثم لافائدة من إيراده ، ليُهمل ركناً ربما يكون الأكثر أهمية في دراسة الحدث التاريخي ، إذ ما الجدوى من معرفة ماوقع وانتهى ،إن لم يكن لأخذ العبرة في حقيقة ان التاريخ يأخذ بالاستدارة في كل حقب زمنية ،وإن اتخذ أوجهاً ومسارات مختلفة في طبيعة القوى المشاركة في صنعه ،وبالتالي تغيير النتائج كي لاتتكرر أو لتكون الوقائع أفضل مما كانت بعد تدارك الأخطاء التاريخية ومن ثم العمل بشكل مختلف لتغيير النتائج من جديد .
هناك أحداث مفصلية مرت في تاريخ المنطقة ،وكانت ستغير في مصيرها بشكل تام لو انتصر التاريخ الموازي ،ومنها مثلاً نتائج معركة صفّين ،الذي يمكن تصور قيام مبكر لما سيعرف لاحقاً بدولة العقد الاجتماعي الذي ستحتاج البشرية إلى قرون طويلة ومسارات متعرجة امتلأت بالحروب الطاحنة والمجازر المروعة لتصل إلى ماوصلت إليه ،لكن النتائج انتهت بتكريس دولة (الملك العضوض )ولتسود مقولة الغاية تبرر الوسيلة التي سينصح بها ميكافيلي حكام أوروبا في كتابه (الأمير) فيما اختفت مقولة شرف الغاية من شرف الوسيلة طوال تلك الأزمنة،لتعود بقوة مع مفكري عصر النهضة فتحدد ملامح دولة الرفاه والعقد الاجتماعي في أرقي النماذج التي وصل إليه مفهوم الدولة عبر العصور .
أما الحدث الآخر ،فكان سقوط القسطنطينية بيد السلطان العثماني محمد الفاتح الذي أفسح المجال لتحويل مسار الشرق بمجمله إلى الإسلام التيمي – نسبة إلى ابن تيمية – الذي ستشتق منه الحركة الوهابية وصولاً إلى قيام المملكة السعودية وما أنتجته فتاوى فقهائها من الحركات الإرهابية التي جعلت من الإسلام في موقع العدو الأكثر شراسة للبشرية كلها .
كان يمكن للأثر العثماني أن يزول أو يخف نفوذه وتأثيراته اللاحقة ،لو قيض للحروب الصليبية أن تنتصر أو تثبت ،وكان من شأن ذلك أن يدخل المنطقة في معادلة جديدة يبقى فيها للمسيحية وجود فاعل في منطقة وقعت كلها في أتون تطرف إسلامي يزداد سعيراً ،لكن التاريخ سار على ماجرت عليه الأحداث ،وكانت من أولى نتائجه أن طوّب واحداً من طغاة التاريخ (صلاح الدين) بطلاً حربياً ومحرراً للمقدسات،رغم انه ذبح الآلاف ممن كان لهم الفضل في تنصيبه قائداً . وكأن بيت المقدس لم تكن للمسيحين قبل أن تتعرض للغزو العربي حاملاً راية الإسلام لفرضها قسراً ، ومن ثم ليسلّم المسيحيون مدينتهم خوفاً من بطش الغزاة القادمين من قلب الصحارى بكل قسوتها وخشونتها.
الواقعة الثالثة المفصلية ،كانت سقوط الدولة الفاطمية في مصر،بانقلاب عسكري قاده الأيوبيون ، إيذاناً بانتهاء صيغة التسامح النسبي ،وبدء صيغة التشدد المطلق ،صحيح ان مصر لم تتأثر كثيراً بالوهابية ،لكن بعضها تبنى تعاليم أبو الأعلى المودودي ليطلق حركة امتدت فروعها في البلدان العربية وبعض الإسلامية باحثة عن إعادة دولة الخلافة ،ومن خلالها عكست تشدداً مذهبياً مازالت آثارها باقية .
ربما كانت مفارقات التاريخ غريبة في ضخ أسئلتها ، التي تبدو بلا انتهاء ولا مقاربات لأجوبة احتمالية كذلك.
في عقود خلت من القرن الماضي ، أعلن المفكر الفرنسي الماركسي روجيه غارودي إعجابه بالإسلام ،مطلقاً قوله بأن أوروبا فقدت فرصتها للاتصال بالحضارة الإسلامية كي تتأنسن ،وذلك بعد معركة (بواتييه )بقيادة عبد الرحمن الغافقي فيما سمي يومها ببلاط الشهداء ،وكان من الواضح ان غارودي لم يتوقع ان ينتج الإسلام حركات إرهابية تجعل من الإسلام المتشدد ،العدو الأول للبشرية كلها ،ومن ثم تنقلب المقولة في واقع الأمر إلى أن المسلمين هم من فقد فرصته بالتحضّر والإنسنة لعدم تأثير الغزوات الصليبية، التي تبين ان إخفاقها كان له مردود سلبي لاحق على المنطقة برمتها .
ذلك ماجعل أوروبا ترفض انضمام تركيا إلى اتحادها كي لاتفتح الأبواب في دخول التطرف إلى أرضها وإن اتخذ أوجهاً أخرى حاولت تركيا تقديمها،لكن أحداث العراق خصوصاً،بينت إن أي بلد إسلامي ،يمكن أن يقع تحت سيطرة التشدد ومن ثم يشكل حاضنة للمنظمات الإرهابية ،التي سيكون بإمكانها التنقل بحرية إذا حصلت تركيا على عضوية الاتحاد.
هل يمكن تدارك الإخفاق الغربي في الحروب الصليبية بشكل أكبر مما هو في إقامة إسرائيل؟
يبدو ان ذلك بات ممكناً بالمساعدة في إقامة دول أخرى ليست مسيحية بالضرورة ، لكنها تقترب من الروح المسيحية في قدرتها السلوكية على الحوار، من خلال فهم متقدم للدين الإسلامي ،لايحضر فيه العنف سلوكاً وحيداً ،ولايقرّ مبدأ الإرهاب كسبيل للتقرّب من الله ،دين مسالم بطبعه يغلّب الروحانيات التبشيرية ،على الغزوات العنفية ،وهو مايتشابه وجذور المسيحية التي اعتمدت بداية على التبشير في نشر دينها وليس الغزو المباشر كما فعل الإسلام الجهادي .
هناك (دين)جاهز تقريباً للتعامل معه ،هو الآن بمثابة طائفة خارجة عن الإسلام يحلّ قتل المنتمين إليها حسبما يطرح التشدد في الإسلام الجهادي ،وقد أصبحت تلك النظرة تسود ليس التنظيمات العنفية وحسب ،بل تعدت ذلك إلى معظم الأوساط السياسية والثقافية حتى في تلك البلدان الأقلّ تشدداً .
المعطيات الأولية بما توفره من حيثيات قابلة للتطبيق ،تشير إلى إمكانية مساعدة الغرب في إقامة دولتين كبيرتين في المنطقة ،شيعية في العراق وإيران امتداداً إلى سواحل الخليج بأكملها تقريباً ،وعلوية على سواحل المتوسط ،هذا مايوفر جملة من الفوائد للحضارة البشرية ،فهو من جهة سيطوق مراكز التشدد في الجزيرة العربية وسوريا والأردن ،بحيث يمنعه من التمدد والسيطرة على نقاط إستراتيجية حساسة ،ويحصره في منطقة جغرافية محددة تقع بين أوروبا شمالاً والدولة العلوية غرباً ،والدولة الشيعية شرقاً ،فإذا ظهر في الواقع الجغرافي ان معظم مناطق إنتاج الطاقة ستخرج من يد الإسلام المتشدد – كشرق السعودية وماتبقى من إمارات الخليج – التي ستكون ضمن نفوذ الدولة الشيعية ، فيما معظم سواحل المتوسط ستكون تحت هيمنة العلويين ومن تحالف معهم ،يمكن عندها رسم خارطة جيوستراتيجية في هذه المنطقة الأكثر حساسية للعالم ،أي تلك الممتدة من سواحل المتوسط ،إلى أقاصي الخليج ،فإذا أضيف إلى ذلك دولة زيدية (حوثية )في جنوب الجزيرة (السعودية) تضم إليها نجران وعسير ،ستظهر المنطقة بواقع جديد يطوّق فيها (الدين) المتشدد في أماكن يسهل رصدها وضبط حركتها.
ليست تلك سيناريوهات من صنع الخيال ،فالمؤشرات التي بدأت بالظهور بعد ان تفاعلت طوال العقود الماضية،باتت تنبئ بقدر من التوقعات التي يمكن حصولها وان احتاجت إلى زمن آخر كي تتبلور ، ومن ثم يكون العالم أكثر قدرة أو رغبة على تجسديها واقعاً ، انطلاقاً من حقيقة ان دولة صغيرة كإسرائيل وباستثنائية وضعها ومحدودية قدرتها قياساً بدول أخرى في المنطقة ،استطاعت أداء دور فاعل في عرقلة الاندفاعات العربية الإسلامية طوال أكثر من ستة عقود متواصلة ،ومع ذلك تبين ان سلامها مع مصر وصداقتها مع تركيا ،ليست ثابتة ويمكن ان تنهار بأية تحولات قادمة مادامت قاعدة الإسلام الفقهي هي التي تحكم أو تؤثر على التوجه السياسي استراتيجياً في تلك الدول رغم إنها أقلّ تشدداً ،لذا فالعمل على دعم قيام مجموعة من الدول التي تجتمع تحت سياقات متقاربة :البحث عن السلام بعد سلسلة من المجازر والدمار،سيكون حلاً مناسباً لمنطقة ستكون مصدر الاضطراب لعقود قادمة إذا تركت عمّا هي عليه.