الاثنين - 21 ابريل 2025
منذ سنة واحدة
الاثنين - 21 ابريل 2025

حميد الموسوي

وما الجمعُ بين الماء والنارِ في يدٍ
بأصعبَ مِن أن أجمعَ الحظّ والفهما
( المتنبي )
قطرة الحظ تفلق صخرة – ونهر العقل يهدر عمره
((إلهي هبني حظّاً يخدمني به أصحاب العقول،لاعقلاً أخدم به أصحاب الحظوظ))
ماهو الحظّ الذي جعل أحد الحكماء يدعو ربّه بتلك العبارة المؤلمة ؟ انه تلك المفردة كثيرة التداول مجهولة المصدر ،لكن الظاهر تجسّداً في أولئك الذين يحصلون على الثروة أو الجاه أو المنصب والزعامة ، أكثر مما تتيحه له إمكانياتهم أو جهودهم
. قليلو الحظ في الغالب ، همّ أصحاب العقول من الحكماء والعلماء والمبدعين: لقد حاربت قريش عليّاً ، رغم مافيه من الشجاعة والفصاحة والحكمة والصدق وطيب المنبت ، وتلك صفات جديرة بوضع صاحبها في القمّة ،لكنه القائل ( لو كان الفقر رجلاً لقتلته( .
. في العصور اللاحقة ، تألم أبوحيان التوحيدي بعد أن أحرق كتبه:” كتبت من العلم ماينتفع به الناس ومايسير مثلاً بين الأنام ، لكن لازمني سوء الطالع وبتّ على الطوى”
فيما يهيم عبقري الشعر (المتنبي) في الصحراء شريداً ليُقتل من موتور حاقد ، وهو القائل (ومن نكد الدنيا على الحرّ أن يرى – عدّواً ما من صداقته بدّ ، أما بدر شاكر السياب ،فيعيد ثمن قصيدة لم يجدها منشورة على صفحات مجلة ” العربي ” كاتباً على غلاف الحوالة ” المذكور مات ” لاعتقاده بأنهم أرسلوها صدقة وعطفاً ،بعدها يموت غريباً وهو يتساءل ” وكيف تدّخر النقود ؟”.
في الجهة المقابلة من العالم ، يموت نظيره في العبقرية “إدغار آلان بو ” وحيداً على كرسي في حديقة عامّة، فيما تشحن جثة عبقري روسيا الأكبرنيكولاي غوغول في عربة لتحميل السمك وليس في وداعه سوى خمسة أشخاص ، ويبيع عبقري الفن ” فان كوخ ” لوحته الشهيرة ” عبّاد الشمس ” بوجبة عشاء ، ليشتريها لاحقاً أحد أصحاب الحظوظ بتسعين مليون دولار ،أما (توماس أديسون ) الذي أضاء بمصباحه ليل البشرية ،فتعرّض للصمم في إحدى أذنيه نتيجة لصفعة من محظوظ متخم لأن الفتى ” أديسون ” أزعجه بطلب شراء نسخة من الصحف التي كان يبيعها في يفاعته، فيما لم يكن الحظّ حليف كوبرنيكوس وغاليليو وغراهام بل وماركوني وعشرات غيرهم ، بمقدار ما امتلكوا من عقول استغلّ ما أنتجته أصحاب الحظوظ ، لكن ” العقول الأكثر قوّة ، هي التي ظلت تدفع بالبشرية نحو التطور ، وظلّ هؤلاء يشحذون ” جذوة الهمم الغافية” كما يقول نيتشة الذي لم تكن حياته بحال أفضل ، فيما كان عبقري الموسيقى بتهوفن ، يسكن في قبو مهترئ رديء الإضاءة، جعل احد زائريه يصرخ مستنكراً : اللعنة ، موسيقاك تحلّق في السماء وأنت تقبع تحت الأرض ؟؟ أما نظيره في العبقرية موزار ، فكان أصحاب الحظوظ من النبلاء حينما ينتهون من الاستماع إلى موسيقاه الربّانية ، يأمرون بوضع عشائه مع الخدم في المطبخ.
لكن صراع “الحظّ ” والعقل يتعلق بالأزمنة التي تسود فيها أنماط من السلوكيات ، كانت قريش تمارس الكهانة لأوثان العرب في الجاهلية ، والتجارة مع الشام ،مع ماتدرّه شعاب مكة فيستولي عليه سادتها ، ما خلق طبقة من أصحاب “الحظوظ ” والحظوة كذلك ،ولما كان الإمام العبقري قد ولد في بيت كثير الأبناء قليل الحظّ في المال ،عكس معاوية الذي ولد وفي فمه ملعقة من ذهب كما يقال ، لذا انحازت قريش بمعظمها إلى صاحب الحظّ (معاوية ) على حساب صاحب العقل (علي ).
لكن الأزمنة أنصفت أصحاب العقول فخلدتهم ،وأهملت أصحاب الحظوظ فأنكرتهم .