الأحد - 06 اكتوبر 2024
الأحد - 06 اكتوبر 2024

د. سيف الدين زمان الدراجي

 

بعيدا عن الأطر الرسمية، تلعب دبلوماسية المسار الثاني دورا محوريا في بلورة رؤى مشتركة تخدم المصالح العليا للدولة. ففي ظل الماضي المضطرب والحاضر المتأرجح للعراق تُرسم للمتابعين والمتخصصين بعض الصور المعقدة، حين تتوقف المحادثات الرسمية غالبًا وسط انقسامات راسخة او مواقف غير موحدة، في خضم أصداء الجمود السياسي الذي قد يرافق اي خطوة نحوة تحقيق المنجز، ليبرز مسار آخر من العمل الدبلوماسي، دون محددات وقوالب القيود الرسمية، بمبادرات يقودها المهتمون بشبكات اتصال فعال، عبر المجتمعات المتطلعة لحلول جوهرية، تمهد الطريق لعلاقات تعاون مشترك بتوجهات بناءة وخياراتٍ إستراتيجية.
تشير دبلوماسية المسار الثاني (Track 2 Diplomacy) إلى التفاعلات والحوارات غير الرسمية وغير الحكومية التي تحدث بين أفراد، منظمات، أو مجموعات من دول مختلفة، خارج القنوات الدبلوماسية التقليدية أو ما يُعرف بالمسار الدبلوماسي الأول (Track 1 Diplomacy) .
تتمثل أهداف دبلوماسية المسار الثاني في تعزيز التفاهم، وبناء الثقة، وتحقيق التقارب بين الأطراف المعنية.وتتميز بأنها تشمل عادةً مشاركة أفراد من ناشطي المجتمع المدني، والأكاديميين، و رجال الأعمال، وغيرهم من الشخصيات غير الحكومية. كما يمكن أن تشمل هذه التفاعلات ورش العمل، والندوات، واللقاءات غير الرسمية، وتعتبر أحد الأدوات الفعالة في حل النزاعات، وتعزيز الفهم المتبادل، والتحضير للمفاوضات الرسمية.
تم أختيار الاسم “المسار الثاني” لتمييز هذا النوع من الدبلوماسية عن المسار الأول، الذي يشير إلى التفاعلات الرسمية والحكومية بين الدول. كما ويعتبر استخدام دبلوماسية المسار الثاني طريقة فعّالة للتعامل مع التحديات الدولية وتحقيق التقارب بين الثقافات والمجتمعات.
تعتبر دبلوماسية المسار الثاني أحد الأدوات الحديثة والفعّالة في سياق العلاقات الدولية، وتلعب دورًا أساسيًا في تعزيز مكانة الدول وتحقيق أمانها القومي.
يشهد العراق في الوقت الحالي سعياً حثيثاً من قبل بعض الشخصيات المؤمنة بفكرة التأسيس لدبلوماسية فاعلة وسياسة خارجية منتجة بتوئمة المسارين الاول والثاني، وفتح قنوات التواصل مع المحيط الدولي والإقليمي من خلال تبني استراتيجيات عمل دبلوماسية المسار الثاني.
تعمل دبلوماسية المسار الثاني في العراق في مساحة فريدة، وفي ظروف سياسية بالغة التعقيد على المستويين الداخلي والخارجي. حيث تكون مراكز الفكر والمؤسسات الأكاديمية ومنظمات المجتمع المدني كمنصات محايدة، تجمع ممثلين من مجموعات متنوعة – علماء وأكاديمين وباحثين ورجال دين وشيوخ قبائل ونشطاء وفنانين وسياسيين – قد لايجدوا لأنفسهم عادة مكاناًعلى طاولة المفاوضات نفسها، ليتناولوا حوارات وقضايا حساسة، من التوترات الأقليمية الى مراحل ما بعد الصراع، في بيئة آمنة بعيدا عن الضغوطات التقليدية.
من الأهمية بمكان ان نفهم بأن دبلوماسية المسار الثاني ليست بديلاً للدبلوماسية الرسمية. بل إنها تلعب دورًا تكميليًا حيويًا. حيث يمكن للبصيرة المستفادة من حوارات المسار الثاني أن تُعلم وتُثرِي مفاوضات المسار الأول، بما توفره من وجهات نظر قيّمة على مستويات غير حكومية قد يتم تجاهلها او ربما يغفل او يتغاضى عنها البعض.
تعتمد دبلوماسية المسار الثاني على التفاعل المباشر بين الشعوب والمجتمعات المدنية ومراكز صنع القرار، وهي لا تقتصر على العلاقات الحكومية الرسمية فحسب.
يمكن للعراق أن يحقق من خلال هذا المسار شراكات وثيقة مع مختلف الفئات المجتمعية، مما يعزز فهمًا أعمق للتحديات والفرص التي يواجهها على الساحة الدولية.
ضمن بودقة الجنبة الأمنية، تُعد دبلوماسية المسار الثاني أحد الوسائل الفعّالة لتحقيق الأمن القومي، حيث تتيح للعراق بناء تحالفات مستدامة وموثوقة، من خلال توسيع شبكة العلاقات، واكتساب دعمًا دوليًا يسهم في ضمانة استمرار الإستقرار وتعزيز القدرة على التصدي للتحديات الأمنية المتزايدة.
تعتبر الثقة أحد ركائز دبلوماسية المسار الثاني، حيث يقوم العراق ببناء علاقات قائمة على الثقة والتفاهم المتبادل. حيث يتم تعزيز هذه العلاقات من خلال التبادل الثقافي، وورش العمل، والتعاون في المجالات الاقتصادية والتنموية.
كما تتيح دبلوماسية المسار الثاني للعراق المشاركة الفعّالة في التحديات الإقليمية والدولية. من خلال التفاعل المستمر مع الدول الجارة وأعضاء المجتمع الدولي، بما يمكن العراق من تعزيز التعاون المشترك لمواجهة التحديات المشتركة مثل الإرهاب، والتغير المناخي، والأزمات الإنسانية.
ان ضمان استمرار نجاح دبلوماسية المسار الثاني يحتم على العراق توسيع قاعدة شراكاته والاستفادة من التكنولوجيا لتعزيز التواصل وتحقيق أهدافه الإستراتيجية. حيث يشكل الاستثمار في التعليم وتبادل الخبرات الثقافية جزءًا أساسيًا من هذه الجهود.
وفقاً لما تقدم أعلاه، لابد من الإطلاع على بعض الامثلة التي بينت أهمية عمل دبلوماسية المسار الثاني. فعلى سبيل المثال وفي مناسبات عدة ، استخدمت الولايات المتحدة دبلوماسية المسار الثاني في محاولة منها لحل النزاعات أو التوصل إلى تفاهمات غير رسمية. كاستخدام الوسطاء غير الحكوميين لتسهيل التواصل مع دول مثل كوبا وإيران.
كما تم استخدام دبلوماسية المسار الثاني لتحسين العلاقات بين كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية. فقد شهدنا محادثات غير رسمية ولقاءات بين ممثلين عن البلدين . ونتيجة لذلك استحدثت حكومة كورية الجنوبية وزارة تأخذ على عاتقها دراسة اعادة توحيد الكوريتين.
كما استخدمت بريطانيا وأيرلندا الشمالية دبلوماسية المسار الثاني لتعزيز الحوار بين المجتمعات المختلفة في الصراع الطويل بين الكاثوليك والبروتستانت في إيرلندا الشمالية على المستوى الداخلي، وتوسعت لخلق حالة من التعاون مع جمهورية أيرلندا.
وفي ذات السياق، وفي محاولة لتعزيز مكانتها الدولية كوسيط للسلام، شاركت كندا في العديد من المبادرات لدعم الحوارات الثنائية وورش العمل غير الرسمية في مناطق متعددة، من بينها جهود لتسوية النزاعات في الشرق الأوسط.

 

تظهر هذه الأمثلة كيف يمكن استخدام الدول للتفاعلات غير الرسمية لتحقيق أهداف دبلوماسية وحماية أمنها القومي.
وعلى الرغم من إمكانياتها ومردوداتها الإيجابية، قد تواجه دبلوماسية المسار الثاني تحديات.وعقباتٍ، ممكن ان تتمثل بالمخاوف الأمنية ومحدودية الموارد والتشكيك من جانب بعض الفاعلين السياسيين. ومع ذلك، فإن النجاحات لا يمكن إنكارها.فهناك العديد من الامثلة عن اهمية حوارات المسار الثاني في تمهيد الطريق لاتفاقيات وقف إطلاق النار، والإفراج عن السجناء، بل والتأثير لتغيير بعض سياسات الدول المناوئة والمنافسة.
بينما قد تركز العناوين على القمم الدبلوماسية الكبرى، علينا ان نفكر دائماً بالعمل الهادئ الذي يحصل في الغرف الخلفية لموائمة جهود ما يحصل في قاعات المؤتمرات.
وفي الختام لابد من الإشارة الى أنه بتعزيز دور دبلوماسية المسار الثاني، يمكن للعراق أن يبني جسورًا قوية مع العالم ويعزز تأثيره على الساحة الدولية. فضلاً عن حماية مرتكزات الامن القومي وتعزيز العلاقات الدولية التي تعكس التزام العراق بالتعاون البنّاء والفعّال في تحقيق الاستقرار الإقليمي و الدولي.