بين الفضيلة والرذيلة
د.أمل الأسدي ||
رأيتُ أن أبدأ من المثل الشعبي القائل” الماتهاب واليها ماتهاب الغريب” كُنا نسمعه من الجدة أو الأم وهي تربي ابنتها وتعلمها علی الذوق والأخلاق والاحتشام، فتبدأ بتعليمها احترام والدها وإخوتها، والأخوال والأعمام، فمن المعيب أن تمضغ العلكة أمامهم، ومن المعيب أن تجلس وتمد رجليها أمامهم، ومن المعيب أن تستلقي أمامهم، فهذه الأفعال خاصة، كما تعلّمها أن ارتفاع صوت البنت غير لائق ومعيب، وهكذا تبدأ بناء أساسها ليكون قويا، وتعلِّم الولد أيضا علی الصلابة والشدة، وأن لايتشبّه بالأنثی، وأن لا يمضغ العلكة، ولايسمح لأحد أن يمازحه مزاحا مبالغا فيه، فتصبح شخصيته ضعيفة وبلا هيبة!
وحتی حين تسري عدوی التدخين الی الولد، يخجل من التدخين أمام والده وأعمامه وأخواله! فيخفي سيجارته إذا رأی والده، أو إذا رأی مدرسه أو أستاذه في مكان ما!
ويعلّم الوالدان أبناءهم علی احترام الجيران، وأن بنات الجيران كالأخوات، ولايجوز النظر إليهن في ذهاب أو مجيء، ويعلمان الولد علی النخوة والهمة؛ فإذا شاهد جيرانهم عائدة من السوق وبيدها” علاگة المسواگ” يركض نحوها ويأخذها منها، ويوصلها الی الباب ويذهب من دون أن يرفع عينيه علی البيت!!
أما الآن فالأمور تغيرت، والتربية تغيرت، ووسائل التواصل الاجتماعي اكتسحت حياتنا، فالكثير من البنات ينشرن يومياتهن المنزلية في وسائل التواصل الاجتماعي، وينشرن تفاصيل اليوم الجامعي كلها، وتنشر ملابسها وغرفتها وسريرها!!
والغريب أن الأب يعلق لها، ولاتزعجه صورة ابنته وهي تتمايل وتحتضن صديقتها وتقبلها أمام الخلق!
والأخ يعلق أيضا ولا يستفزه ما تفعله أخته وما تنشره من خصوصيات!!وصرنا نسمع بسياقات خطابية غريبة ودخلية، كأن يقول الولد لأخته أو خالته : شلون وصلة انتي؟ صاكة!!
والأم، تضع إشارة لابنتها علی إعلان حفلة في المطاعم والنوادي!وهنا؛ لانقصد الإعمام وتحويل الحالات إلی ظواهر، كما أننا لانصور المجتمع تصويرا ملائكيا ونترك هذه الحالات التي بدأت تتزايد بشكل مخيف!
وأيضا، من الغباء ومحدودية النظر أن نتصور أن كل هذا الانحلال المغلف بغلاف الانفتاح؛ أنه تلقائي، طبيعي، غير موجه!
وإنما أعده لونا من ألوان الإرهاب القيمي الذي يهاجم مجتمعنا، والدولة تتفرج، والمؤسسات التربوية والتعليمية تتفرج!
فسابقا كانت الكلية تؤدي دورها، وتترك أثرا كبيرا في الطلبة، فعلی سبيل المثال؛ كان الزي الموحد المفروض علی الجميع، يحفظ هيبة الجامعة ويحفظ هيبة الطلاب، يحافظ علی كلمة “الحرم الجامعي” أما الآن فالمحاسبة شبه معدومة، وإذا كانت هناك محاسبة ومتابعة؛ فتجد الطالبة ترد علی الأستاذة أو الأستاذ” بابا يدري بيه وشافني من طلعت” ” بابا يدري بية ادخن وهو يجيب النا الارگيلة” ” اهلي يدرون بية ادخن، ومن نطلع للمطعم نطلب اركيلة اني وماما” وهذا الانفلات يسهم فيه الجميع ،فلو تم تطبيق قانون الزي الجامعي؛ لعرفت هذه الطالبة أو هذا الطالب،أن الذهاب الی الجامعة يختلف عن الذهاب الی السوق أو المطعم أو الحفلة!!
لو يتم تطبيق القانون؛ لما جلس الطالب وقميصه مفتوح وصدره مكشوف، والوشم علی طول ذراعه، والبنطلون قصير، وحين يقف يهبط بنطلونه من الخلف بشكل مقزز!!
فمن يربي إذن؟ البيت فيه خلل، الجامعة فيها خلل كبير، حتی صرنا نری اعلانات الكثير من الجامعات والكليات الأهلية وهي تعرض صور التدريسيات والطالبات بزي فاضح وصارخ كي تجذب الطلبة!!
وهذا أدی إلی تهشيم صورة الأستاذ المربي!
إن المنظومة القيمية العراقية تشهد هبوطا سريعا،.ونحتاج إلی قوانين وضوابط تحافظ عليها، نحتاج إلی تفعيل الدور التربوي للمنابر التي تعرضت هي الأخری للتغيير، فالشيخ الوائلي “رحمه الله” كان يربي ويعلم وينصح من دون النزول إلی المستوی السوقي أو الشعبوي، فلا يخاطب المرأة بشعبوية ويقلل من قيمتها، ولايخاطب الأسرة بالتقريع والشتائم، ولم نسمع منه ما يقدح أو يجرح!
الآن؛ توجد تجارب منبرية رائعة ولكنها ضائعة في هذا الزحام والهرج الذي سببه غياب القانون وهجوم وسائل التواصل الاجتماعي.
تُری لماذا يظن الرجل ـ مثلاـ أن الكلام في الواقع أو التعامل مع المرأة في الواقع يختلف عن التواصل الاجتماعي؟ فيقتحم خصوصيات الناس، ويرفع لقب المرأة وكنيتها،وإذا اعرضت، قال لها: ماهذا التكبر؟ أو هذا سوء ظن؟ أو الحياة الآن منفتحة؟؟
هل يظن أن الكتاب الذي لايغادر صغيرة ولاكبيرة، لايشمل ما يكتبه المرء وما ينشره وما يرسله في وسائل التواصل الاجتاعي؟؟
إن الإرهاب القيمي نجح إلی حد كبير في ضرب المنظومة القيمية، ونجح في إشاعة الفوضی، وتلاعب في وعي الكثير من الناس وسرقه، ومازال يزج في حياتنا مئات الشخصيات التافهة وآلاف الصفحات والحسابات التي تبث ليلا ونهارا، ونجح في إعطاء أهمية لكاسرات الحياء المعروفات في الواقع، فصار أولادنا يتابعون حساباتهن وصفحاتهن، ويستمعون إلی كل ما يصدر منهن، ويشاهدون حياتهن اليومية المليئة بالفسوق والبذخ والتحريض وحيونة الحياة، أي إزالة خصوصية حياة الإنسان، فكل شيء يمكن نشره، ومن أي مكان!
إحداهن نشرت “روتينها اليومي من السرير إلی الحمام والدوش، وتفاصيل الاستحمام، إلی الشسوار واللبس إلی الفطور … وهكذا”
والغريب أنهن يعترضن علی الزيارة الرجبية، ويطالبن الناس أن يعملوا بالمنطق، فلماذا محلها مغلق ليومين؟
ماذنبها؟؟
لذلك؛ ندعو الدولة أن تكون حريصة علی تطبيق القانون حتی لا تتجرأ فلانة وأمثالها علی هذا العبث وقلب المفاهيم وتضليل الناس وتزييف الحقائق.
عموما؛ نكتب لنغيّر، نكتب لنعمل، لننبه، ولانكتب لنهوّل ونضخّم، فأغلب الدول العربية والإسلامية تعاني من الإرهاب القيمي الذي يلاحق أبناءهم، ويلاحق هويتهم، ويحاول تمييعها، وعلينا أن نواجه ونقاوم، ولانسمح لهم بتشويه منظومتنا القيمية وسرقة هويتنا، ولايفوتنا أن نذكّر الناس أن الشهر الفضيل علی الأبواب؛ وقد نجح الإرهاب القيمي في تحويله من شهر الفضيلة والعبادة إلی شهر التسلية ومحاولات جر الناس إلی الانحلال، الشهر الذي ينشط فيه استهداف الأسرة، واستهداف المجتمع وهويته، وضرب المنظومة القيمية، وفي كل عام تكون ماكنة الإرهاب القيمي أكثر شراسة في هذا الشهر، لإبعاد الناس عن موسم العبادة والسمو الروحي.