الجمعة - 29 مارس 2024

“بين مرارتين” أو “ثالثة المرارات”

منذ 4 سنوات
الجمعة - 29 مارس 2024

د.احمد جمعة البهادلي
كُتِبَ على الانسان في هذه الحياة أن تتقاسمه همومها وتشتد بوجهه رياح التحدي من كل جانب مسلماً كان أم كافراً ومطيعاً أم عاصياً!!.. فما من همٍّ ينتهي الا ويتبعه همٌّ آخر حتى ورد في الحديث الشريف “عن علي بن أبي حمزة عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام قال: مثل المؤمن مثل كفتي الميزان، كلما زيد في إيمانه زيد في بلائه، ليلقى الله عز وجل ولا خطيئة له”!!..
وهذه نظرة واقعية تعبيرٌ عمّا تنطوي عليه الحياة من مصاعب وهموم أكثر من أن تكون تعبيراً عن التشاؤم واليأس مما نهى عنه الاسلام..
الابتعاد عن “البلد الأم”مرارة لا يعدلها عموماً شيئ لذلك كانت الهجرة تتوسط الإيمان من جانب والجهاد من الجانب الاخر كما وردت في عدة أيات بالقران الكريم “إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَاَلَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيل اللَّه أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَة اللَّه وَاَللَّه غَفُورٌ رَحِيم”..وهي أي الهجرة قد تكون ضرورية لا بد منها وقد تكون اختيارية أو تكون خاطئة حسب دوافعها وآلياتها وما يترتب عليها..
فحين تكون لتعميق الإيمان وصون القيم والشرف وخدمة الاهداف غير أن تكون لأسباب ترفيهية مما يجعل التمييز بين أنواعها مهم ولا بد منه؛ فهي قد تدرّ على المهاجر بالنفع المادي أو العلمي أو الصحي.. لكن الحالة العامة للهجرة فيها من التعب والمشقة ما يجعل معاناتها كبيرة؛ الابتعاد عن الوطن مهما تكن أسبابه مرارة أما اذا كانت بسبب المرض وتداعياته فمرارة ثانية وعندما يكون المهاجر موزعاً بين مرارتين الهجرة من جانب!! والمرض من جانب آخر!! ثم يتعرّض بلده الأم الى “ثالث المرارات”!! وهي ما يمر به شعبه من التحديات والمصائب الأمنية والخدمية والسياسية البالغة الشدة بحيث تصل محنته الى ذروتها الثلاثية (ابتعاد -مرض -تحرّق على البلد الأم) مثل هذا الثلاثي الخطر أشدّ ما يكون عليه في البلدان التي تقع تحت سيطرة الأجانب والذي تمتد معه هيمنتهم للمَهاجر التي يلوذ باللجوء لها بحثاً عن الأمن وعن الفرص التي يخدم فيها شعبه ويدفع عنه خطر التحديات!!
تبقى مرارة الهجرة غير قابلة للتجرّع ولو بدت لبعض المهاجرين عناصر الراحة والعمل والحرية السياسية أما حين يضمّ لها عاملُ المرض فقد يزيدها في الطين بِلّة ولو أن الكثير من تلك البلدان قد توفر خدمات تبدو طبيةً يستفيد منها المهاجرون مما لم تتوفر لهم في بلدهم الأم!!..
ومهما يكن من أمر فإن الإنشداد للوطن لا يعدله شيئ انما يضطرّه للهجرة هو قسوة الظرف الذي يمرّ به في بلده..
ولا تقف المرارة الاولى عند حدود كونها مرارة ابتعاد انما تمتزج بمحتوى الثانية النابعة من ذات المرض الذي ألمّ به وما سبب له من معاناة والتي تقترن به ولا يُنسيه هذان الوجعان الا الوجع الثالث وهو ما يمرّ به بلده وبما يجرّ على أهله من نتائج رغم ما له من كثرة ثروات وما يمتاز به من خصوصيات وكلما اشتدت قساوة الظروف على أهله وشعبه وكرامة وسيادة بلده كلما ازداد معها تضوّراً بنار المعاناة!!..
أما حين يكون البلد هو العراق والشعب هو شعب العراق والمآسي بحجم مآسيه فإن آثار المصاب تتضاعف والتضحية المطلوبة من أجل تحريره تكبر.. وصدق المتنبي وهو يقول:-
‫يَهُونُ عَلَيْنَا أَنْ تُصَابَ جُسُومُنَا ‬
‫ وَتَسْلَمَ أَعْراضٌ لَنَا وَعُقُولُ. ‬
رحلة المرض تتميّز بأنها انحرافٌ عن الصحة وتذكرة أو قد تكون إيذاناً أحياناً بالموت ولو بدرجةٍ أو بأخرى..
أما ما أصاب بعض المهاجرين من موت بسبب طيلة هجرتهم وكانوا يواصلون جهادهم على مدى حياتهم فقد وعدهم الله تعالى خيراً بالمغفرة.. “..وَمَنْ يَخْرُج مِنْ بَيْته مُهَاجِرًا إلَى اللَّه وَرَسُوله ثُمَّ يُدْرِكهُ الْمَوْت فَقَدْ وَقَعَ أجرُهُ على اللهِ وكان اللَّهُ غفوراً رحيماً.. عطاءات الهجرة كثيرة مادام المهاجر في سبيل الله.. ”
ـــــــــــــــ