دولة الرفاه العراقية بين الوهم والحقيقة..!
محمد شريف ابو ميسم ||
يقول بعض من منظري الاقتصاد – ان ما من حقل يعد انفتاحه المتزايد على حركات رأس المال العالمي والتجارة العالمية، كارثياً مدمراً مثل ميدان الرفاه الاجتماعي، وان نهاية دولة الرفاه هي نتيجة من نتائج العولمة – ولانصار العولمة منهج يدعو إلى المعنى في توسيع ليبرالية الاقتصاد العالمي وازالة الضوابط على الاقتصاديات المحلية معتبرين ان دولة الرفاه تشكل عائقاً امام ذلك التوسع. والذي يعنينا في هذا الصدد هو الاجابة على سؤال يتبادر إلى الذهن دوماً، مفاده :
– هل سيتسنى للمواطن العراقي ان يعيش في دولة الرفاه؟
التي يبشر بها بعض السياسيين العراقيين – اذ يقول البعض منهم ان الوصول إلى دولة الرفاه مؤكد، ولكن الطريق صعب – ففي خضم التأسيس لدولة جديدة، لا تملك البنى التحتية التي تؤلها لخوض غمار التنافس، حتى في سوقها المحلية، وتسعى بكل امكاناتها لاستقطاب الرساميل الاجنبية للمساهمة في اعادة اعمار البنية التحتية.
ثمة التزام فرضه الدستور على الحكومات التي ستتولى ادارة البلاد، وهذا الالتزام يرجح الإجابة بنعم على التساؤل المطروح نظرياً فالمادة (30) من الدستور تقول: اولاً، تكفل الدولة للفرد وللاسرة الضمان الاجتماعي والصحي والمقومات الاساسية للعيش في حياة حرة كريمة، تؤمن لهم الدخل المناسب والسكن المناسب.. ثانياً، تكفل الدولة الضمان الاجتماعي والصحي للعراقيين في حالة الشيخوخة او المرض او العجز عن العمل او التشرد او اليتم او البطالة وتعمل على وقايتهم من الجهل والخوف والفاقة، وتوفر لهم السكن والمناهج الخاصة لتأهيلهم والعناية بهم وفي المادة (31) اولاً.. لكل عراقي الحق في الرعاية الصحية، وتعنى الدولة بالصحة العامة وتكفل وسائل الوقاية والعلاج بانشاء مختلف انواع المستشفيات والمؤسسات الصحية، وفي المادة (32) ترعى الدولة المعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة وتكفل تأهيلهم.. وفي المادة (34) ثانياً.. التعليم المجاني حق لكل العراقيين في مختلف مراحله.. وفي المادة (25) تكفل الدولة اصلاح الاقتصاد العراقي وفق اسس اقتصادية حديثة ، بما يضمن استثمار كامل موارده وتنوع مصادره، اما المادة (27) ثانياً فتنص على (تنظم بقانون الاحكام الخاصة بحفظ املاك الدولة وادارتها وشروط التصرف فيها والحدود التي لا يجوز فيها النزول عن شيء من هذه الاموال) ومجموعة هذه المواد الدستورية، تشكل بمجملها ضمانة نظرية لقيام دولة الرفاه، اذا ما وضعت الدولة يدها القانونية على عمل الاستثمارات الاجنبية والقطاع الخاص، وتلمس المواطن تطوراً في واقع الخدمات المختلفة، فعلماء الاقتصاد يرون ان المجتمعات التي تعرض نفسها لقدر اعظم من الخطر الخارجي، تطالب بدور حكومي اكبر (تحصل عليه) كملاذ يحمي من تقلبات الاسواق الكونية، ومن هنا جاء التبشير، بان دولة الرفاه هي الوجه الآخر للعملة في الاقتصاد المفتوح.. بيد ان السؤال الملح هنا، هو.. هل بامكان الحكومات العراقية المقبلة ان تضع ضوابط على حركات رأس المال، وهي بامس الحاجة لاستقطابه إلى داخل البلاد، ام العكس هو الصحيح؟.. فواقع الحال يشير إلى اشتراطات وضعتها مجموعة الدول المانحة التي تتصدرها مجموعة الدول الثماني، لاجراء اصلاحات اقتصادية مقابل التعامل الايجابي مع المديونية العراقية واطلاق المنح والاستثمارات في داخل العراق… الا ان العزاء الوحيد للمتفائلين في قيام دولة الرفاه العراقي على ما يبدو هو الخزين النفطي وتعاظم ازدياد الطلب العالمي على النفط، واقرار الدستور العراقي في المادة (108)على ان النفط والغاز هما ملك لكل الشعب العراقي.. بمعنى لا يمكن خصخصة هذا القطاع ولا يمكن ان يخضع للمضاربة.. ولكن هذا العزاء يبقى مرتبطاً بالسوق النفطية وتقلباتها، وقدرة الدولة على تحويل التراكم المالي الناتج عن تصدير النفط إلى تكاثر مالي من خلال تطوير القطاعات الانتاجية المختلفة، واستثمار الايدي العاملة، سواء عن طريق دعم القطاعات الانتاجية القائمة حالياً او المزمع اقامتها مع دعم القطاع الخاص… فلو نظرنا إلى دول الرفاه في البلدان المتقدمة – التي لا يشبه واقعها الاقتصادي، لامن قريب او من بعيد واقع الاقتصاد العراقي الحالي، فليس ثمة ريب في ان تلك الدول، تتعرض إلى مصادر متنوعة من التوترات التي تزيد من تكاليف الخدمات والطلب عليها، مثل استمرار المستويات العالية من البطالة، وازدياد تكاليف المخصصات التقاعدية والرعاية الصحية وتزايد تعقيد التكنولوجيا المتقدمة كخدمات طبية وتربوية، وارتفاع معدلات انهيار العوائل وتنامي الطلب على تحسين الخدمات الاجتماعية عموماً، كل ذلك يدفع بتلك الحكومات، التي باتت اضعف مما كانت عليه منذ سنوات تمتع سكانها بدولة الرفاه امام العولمة الاقتصادية وهيمنة الرساميل المحلية متعدية القومية على الحركة الاقتصادية في تلك البلدان.. يدفع بها إلى وضع كابح على الانفاق العام والاقتراض الحكومي في عدد منها، مما اثر على مخصصات الرفاه وتوفيره، ويضيف بعض المحللين لمجمل تلك المسببات سببا آخر جراء الانفتاح الاقتصادي، وهو معيار التقارب في سبيل الوحدة النقدية، الذي وضع حداً للانفاق العام في بعض تلك الدول، في الوقت الذي تشهد فيه تلك البلدان معدلات نمو عالية للصادرات واجتذاب للاستثمارات يوازيه ارتفاع في البطالة ونمو متدن نسبياً ومشاكل بنيوية جوهرية في دولة الرفاه.. فهل للعولمة التي تتسبب في انهيار جدران دولة الرفاه العتيدة، ان تمنح بناءنا الجديد ملامح الرفاه التي يعدنا بها السياسيون؟، ونحن لم نخط بعد باتجاه تجاوز اشكاليات العجز المالي والتضخم والبطالة والمديونية وما يترتب عليها من اشتراطات لاستقطاب الرساميل الاجنبية التي تريد العمل في واقع سوق منفلت.