كيف ذهبتَ معهم يا أبي؟!
د.أمل الأسدي ||
نظرتُ إليه، كان يشبه والدي كثيرا، تجلس رفيقة دربه قربه أمام شباك الإمام في الرواق، ذهب ابنه وزوجته إلی الزيارة وبقي الأحفاد برفقتهم ، كان الطفل يلعب مع جده، يركض ثم يأتي إليه مسرعا، فيرد الجد قائلا مع الضحكة : يواش يواش!
جلسته أخذتني إلی حقول الذاكرة الرطبة بالصور، حيث بيتنا العامر، وقوة والدي وحزمه وانضباطه، ومهارته في كل شيء تقريبا.. النجارة، الحدادة، التصميم، البناء، تصليح الأجهزة الكهربائية، وهي صفات أغلب الآباء تقريبا، فهم من أجيال العطاء والتحدي والصبر… أجيال الحكمة والصمت!
تروي لنا أمي حدثا في نهاية سيتينيات القرن الماضي قائلة: في يوم من الأيام تغير والدي وبدا مهموما حزينا، وكلما سألته عن السبب، يقول لها: لايوجد شيء، مجرد تعب!
تقول أمي: ولم أعرف مابه حتی جاء ذات يوم، وقال لها :تحضري، سنذهب الی النجف!
واشتری خروفا وحرره في الحضرة نذرا، وقال لها:” مريت بمحنة چبيرة بالشغل، ونخيت ابو الحسن علي يوگفلي بيها وما قصر” وهذا الخروف نذر لوجه الله تعالی!
هكذا كان والدي، لايشكو، ولايطلب شيئا من أحد، ولاينام وتغمض عيناه إلا في بيته، ولا يرتاح إلا بعد أن نقفل باب السطح ونضع المفاتيح تحت وسادته!
لهذا كُنا نراه قويا، ولم نتوقع أن يضعف ويمرض إلی هذا الحد!!
هكذا تهت مع الذكريات والقصص، فبكيت بألم وحسرة، فالفقد موجع! ثم دعوت الله تعالی أن يجازيه علی صبره وعذابه أيام المرض!
وأن يوصل له ثواب هذه الزيارة والدعوات والأعمال، ومع أن دموعي لم تجف إلا أني أغلقتها طامعةً برؤيته، وبالفعل كنتُ واقفةً مع إخوتي علی شاطئ نهر دجلة، وبدت المياه مرتفعة جدا، جميلة ولامعة، اقتربنا من النهر، وإذا بمجموعة من نعوش الشهداء تطفو علی المياه، وكأنها موكب ينتظر الانطلاق، أمعنت النظر جيدا فوجدت والدي بينهم، فتعجبت وقلت لأخي: كيف أتی معهم؟ من جاء به؟
ثم جاء الأمر أن تنطلق النعوش وتعبر!
وطُلب منا أن ننصرف، فذهبت وأنا أتلفت، وأنظر الی نعش والدي وأناديه قائلة:
في أمان الله، أيها البعيد جسدا، القريب روحا!
استيقظت بعدها، ودموعي اسيقظت قبلي!
هل تعني الرؤيا أن سلامي ودعائي ولوعتي قد وصلت إليه؟
واشتعلت النار بي من جديد وثارت الأسئلة:
كيف انقضت حياتنا بسرعة؟ وكيف اختفی صوت أبي من البيت؟ وكيف غابت نظراته الفرحة بنا، المستفهِمة أيام مرضه؟
أرجوكم، استثمروا وجود آبائكم وأمهاتكم، تزودوا منهم، ولا تحرموهم من أحفادهم، فهم يفرحون برؤيتكم ورؤية أولادكم!
ليجلسوا معهم، ويأكلوا معهم، ويقبلوهم، ففي هذه الحميمية عافية وإنعاش للذاكرة، وإحياء للأمل!!
أبي، سأناديك كما ناديتك في الرؤيا:
في أمان الله أيها البعيد جسدا، القريب روحا!