اخر حجة وخليفة الله في نهج البلاغة..!
د.مسعود ناجي إدريس ||
وَ مِنْهَا: قَدْ لَبِسَ لِلْحِكْمَةِ جُنَّتَهَا وَ أَخَذَهَا بِجَمِيعِ أَدَبِهَا مِنَ الْإِقْبَالِ عَلَيْهَا وَ الْمَعْرِفَةِ بِهَا وَ التَّفَرُّغِ لَهَا، فَهِيَ عِنْدَ نَفْسِهِ ضَالَّتُهُ الَّتِي يَطْلُبُهَا وَ حَاجَتُهُ الَّتِي يَسْأَلُ عَنْهَا؛ فَهُوَ مُغْتَرِبٌ إِذَا اغْتَرَبَ الْإِسْلَامُ وَ ضَرَبَ بِعَسِيبِ ذَنَبِهِ وَ أَلْصَقَ الْأَرْضَ بِجِرَانِهِ، بَقِيَّةٌ مِنْ بَقَايَا حُجَّتِهِ، خَلِيفَةٌ مِنْ خَلَائِفِ أَنْبِيَائِهِ.
رسالة الامام امير المؤمنين عليه السلام، ج7، ص: 72-67
صفات ذلك الرجل الإلهي:
ما ورد في هذا الجزء لا يبدو أنه مرتبط بالأجزاء السابقة من هذه الخطبة. والسبب في ذلك هو أن المرحوم السيد الرضي في كثير من الأحيان لم يكن يقرأ كل الخطب، بل كان يختار أجزاء منها. تعبير “مِنْها” في بداية هذا الباب دليل واضح على هذا الأمر، وهذا ما جعل هذا الباب ومرجع ضمائره يقع في هالة من الغموض وأعطى كل من المفسرين احتمالا لذلك؛ ولكننا نرى أن في هذا الباب في مجمله دليلا يزيل أي غموض أشير إليه.
يقول أولا: (قَدْ لَبِسَ لِلْحِکْمَةِ جُنَّتَهَا، وَ أَخَذَهَا بِجَمِيعِ أَدَبِهَا، مِنَ الاِْقْبَالِ عَلَيْهَا، وَالْمَعْرِفَةِ بِهَا، وَالتَّفَرُّغِ لَهَا).
وأما من المقصود بهذا الحكيم الذي تملأ حكمته كيانه كله، وتلفت انتباهه، وتحتضنه الأخلاق ، فقد وردت عدة احتمالات، منها الاحتمالات الأربعة التالية:
1ـ قالت مجموعة : المراد بهذا اللفظ المهدي (عليه السلام) وغيبته وقيامه. وعزا ابن أبي الحديد هذا الرأي إلى الإمامة، ولم يقبل ذلك في البداية؛ لكن في النهاية تم قبول نظرية انه شخص سيولد في آخر الزمان واسمه المهدي (عليه السلام) .
2ـ قال الفلاسفة: يعني هؤلاء العارفين النخبة الموجودة بين الناس في كل زمان.
3ـ وقد روي عن بعض الصوفية أنهم يقصدون أولياء الله وطلبة الحق الموجودين دائماً في الأرض.
4ـ وقد روي عن جماعة المعتزلة أن المقصود بالعالم هو العدل والتوحيد من المؤمنين الذين يظهرون بين الناس في كل عصر وزمان. ولكن عندما نفسر ألفاظ الخطبة حتى نهاية هذا الباب نجد أن هذه الألفاظ ليس لها تفسير صحيح إلا الامام المهدي (عليه السلام).
على اي حال عبر ب (قَدْ لَبِسَ لِلْحِکْمَةِ جُنَّتَهَا) يعني أنه حكيم ويلبس درعاً لحفظ الحكمة، أي درع الورع والتقوى، كما جاء في الحديث المشهور: «ما أَخْلَصَ عَبْدٌ للهِِ عَزَّوَجَلَّ أَرْبَعينَ صَباحاً إلاّ جَرَتْ يَنابيعُ الْحِکْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلى لِسانِهِ ».(عيون اخبارالرضا(عليه السلام)، جلد 2، صفحه 69، حديث 321.)
والجمل بعد ذلك “وَ أَخَذَهَا بِجَمِيعِ أَدَبِهَا…” كلها تشير إلى أنه حكيم قوي يحكم علمه وحكمته كيانه كله، ويدير بيئته بهذه الأدوات.
ويتابع الإمام (عليه السلام) قائلاً: (فَهِيَ عِنْدَ نَفْسِهِ ضَالَّتُهُ الَّتِي يَطْلُبُهَا، وَ حَاجَتُهُ الَّتِي يَسْأَلُ عَنْهَا).
هذا البيان هو تأكيد آخر على حقيقة أن خطة عمل ذلك الإنسان الإلهي مبنية على الحكمة وقبل إحداث أي تحول، فإنه يؤسس التحول العلمي والثقافي؛ وهذا الكلام موافق لما ورد في الروايات عن المهدي (عليه السلام). من جملة ما جاء في حديث عن الامام الباقر (عليه السلام) ما يلي: «إذا قامَ قائِمُنا وَضَعَ يَدَهُ عَلى رُؤُوسِ الْعِبادِ فَجَمَعَ بِها عُقُولُهُمْ وَ کَمُلَتْ بِها أَحْلامُهُم ».(بحارالانوار، جلد 2، صفحه 328، حديث 47.)
ثم في شرحه لصفة أخرى لهذا الإنسان الإلهي يقول: (فَهُوَ مُغْتَرِبٌ إِذَا اغْتَرَبَ الاِْسْلاَمُ، وَ ضَرَبَ بِعَسِيبِ ذَنْبِهِ، وَ أَلْصَقَ الاَْرْضَ بِجِرَانِهِ).
وعندما يتوقف الجمل عن المشي، ينتشر على الأرض بحيث يلتصق طرف ذيله بالأرض بل ويضع عليها أسفل رقبته للتعبير عن ضعفه .
هذا القول إشارة أخرى واضحة إلى إحدى صفات ذلك الرجل الإلهي، وأنه في غيابه سيكون الإسلام والمسلمون في أضعف حالاتهم، وسيقوم الأعداء من كل مكان للقضاء على الإسلام وهزيمة المسلمين.
وفي حديث آخر عن الامام الصادق (عليه السلام) جاء:«اَلْعِلْمُ سَبْعَةٌ وَ عِشْرُونَ حَرْفاً فَجَميعُ ما جاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ حَرْفانِ فَلَمْ يَعْرِفِ النّاسُ حَتّى الْيَوْمِ غَيْرَ الْحَرْفَيْنِ فَإذا قامَ قائِمُنا أَخْرَجَ خَمْسَ وَ عِشْرينَ حَرْفاً فَبثّها فى النّاسِ وَ ضَمَّ إِلَيْها الْحَرْفَيْنِ حَتّى يَبُثَّها سَبْعَةَ وَ عِشْرينَ حَرْفاً »(بحارالانوار، جلد 73، صفحه 336 .)
وفي نهاية هذه الفقرة يوضح الإمام (عليه السلام) في هذا الصدد فيقول:(بَقِيَّةٌ مِنْ بَقَايَا حُجَّتِهِ، خَلِيفَةٌ مِنْ خَلاَئِفِ أَنْبِيَائِهِ).
كما يمكن الحصول عليه من بيان هذه الصفات، فإن الجمل المذكورة أعلاه لا يمكن أن يكون لها مرجع ضمير آخر غير الامام المهدي. وعلى وجه الخصوص، فإن كلمات “بقية” و”حجة” و”خليفة” في ثقافتنا الدينية تتوافق تمامًا مع ذلك الامام.
****
ملاحظة:
إشارات إلى قيام المهدي (عليه السلام):
إن هذا الجزء من الخطبة الذي فيه إشارات واضحة إلى ظهور الامام المهدي (عليه السلام) يستعمل بشكل جيد لأنه، خلافا لخيال الجاهلين، هو السند الأساسي للمهدي في الفكر والعلم والثقافة. الثورة؛ ليست انتفاضة عسكرية ومليئة بإراقة الدماء بل قيام يرفع مستوى أفكار الناس لدرجة أنهم يتجهون نحو حكومة مليئة بالعدل والعدالة. ومما لا شك فيه أنه في بداية الطريق تكون الأقلية المغامرة والمنحرفة والظالمون والمستكبرون عقبات في هذا الطريق، فيزيلها الإمام بقوته العسكرية و يسعى باستمرار إلى العلم ويرفع المستوى العلمي للأمة، وكما يقول جده النبي الكريم (صلى الله عليه واله وسلم) بصيغة المضارع: (رَبِّ زِدْنِي عِلْماً).(طه، آيه 114.)
****