جدلية التفاهة وغيبوبة الوعي..!
محمد شريف أبو ميسم ||
حين ترجم كتاب نظام التفاهة للفيلسوف الكندي “آلان دونو” للغة العربية في العام 2020 ، توقف الكثير من الجدل بشأن معطيات التفاهة والتسطيح التي أحاطت بالوعي الجمعي العربي، وبات من المقبول والثابت لدى المثقف وبعض المتعلمين ان التفاهة معطا من معطيات عصرنا الحالي الذي تدير شؤونه رساميل العولمة، اعتمادا على هوس الاستهلاك القائم على مخاطبة الشهوات سواء منها الشهوات الواعية التي يمكن أن يتحكم بادارتها الفرد أو تلك الغير واعية القائمة على الغرائز ، وصولا لقول الكلمة الأخيرة عبر سيطرة التفاهة المحكمة على مفاصل التشكيلات وأنماط الذائقة ومجموعة الأنا الأعلى .
وبعد أن كان الحديث بهذا الشأن ضربا من ضروب الهوس بنظرية المؤامرة وتهمة جاهزة للعقل السياسي الباحث عن أسباب الظاهرة، باتت هذه الظاهرة لغزا محيرا لدى المراقب الرافض لتوصيف التفاهة بـ( الهدف: الذي تسعى اليه سلطة رأس المال وهي تهيمن على أدوات العولمة الثقافية) وظل هذا النوع من المعنيين بالعلامات التجارية لمفاهيم الحرية والديموقراطية، رافضين لكل النتائج الاستدلالية التي تشير الى اقصاء الضمير والاخلاق عن الساحة التي يتحرك فيها المثقف والعالم والباحث، بهدف تسطيح الوعي والمتاجرة بالثقافة والفن والبحث العلمي وتأسيس لقطيعة ثقافية بين الأجيال الجديدة وتاريخها ( بوصف التاريخ حزمة من الخزعبلات والأكاذيب التي أنجبت لنا الحركات الأصولية وظواهر التخلف) .
بيد ان اللافت في تصويبات “آلان دونو” هو عدم تحميل المثقف (الحكيم والعالم والباحث) ولو ببعض من مسؤوليات ما أصاب المجتمعات من تفاهة، فهو يرى ان المثقف يعطي الأولوية للحق والحقيقة بوازع من ضمير قبل إطلاق أحكامه، وبهذا فهو منحاز للمثقف ، دون يلفت نظر القاريء الى ان بيئة التفاهة عادة ما تميل الى الترميز، فتنتج مثقفا تافها مثلما تنتج مشاهير تافهين يلبسون قناع الفن أو رداء الاعلام أو حلة الأدب، وهؤلاء هم نتاج سياسة الترميز التي يسيل لها لعاب سماسرة الاعلانات والبيع والشراء للخوض في مساومة الكلمة والموقف وصناعة المحتوى التافه، على خلاف من لا يساوم على كلمته بما يقتضيه ضميره العلمي والأكاديمي. أي ان “دونو” لم يضع معيارا للفصل بين المثقف الذي لا يستسلم للإغراءات والضغوطات في مجتمع تدير شؤونه الرساميل وبين المثقف المستعد للكسب على حساب الأخلاق والضمير، ولهذا السبب حل ذوي الاختصاص محل الحكماء والعلماء والباحثين، وذوي الاختصاص لدى “دونو” ليس لهم سوى حرفيتهم دون وعي بما يدور من حولهم وباتت الأكاديمية على غير مسارها ورسالتها وما عادت الأكاديمية قادرة على انتاج المثقف الحكيم والعالم والباحث الذي يؤدي دورا علميا واخلاقيا على أكمل وجه.