الاثنين - 14 اكتوبر 2024

مدخل الى تكوين الأُمة العراقية: مقاربات أنثروبولوجية وتاريخية في نشوء الأمة العراقية ومكوناتها القومية

منذ 5 أشهر
الاثنين - 14 اكتوبر 2024

د. مدخل الى تكوين الأُمة العراقية:
مقاربات أنثروبولوجية وتاريخية في نشوء الأمة العراقية ومكوناتها القومية ||

مقدمة منهجية
البحث الذي أقدمه هنا، هو خلاصة نتائج كتابي: «السومري المستعرَب: مسارات تكوين الأُمة العراقية»، والذي لا يزال تحت المراجعة المتكررة، كلما توافرت مصادر جديدة. وهو السبب الذي يمنعني من دفعه الى الطباعة. ولذلك؛ رغبت في تقديم هذه الخلاصة، وهي موجهة للباحثين والمتخصصين، للحصول على ملاحظاتهم المنهجية والمعرفية والتحليلية، لأن هدفي هو تقديم حصيلة معرفية منهجية دقيقة نسبياً للقارئ؛ خدمةً للعلم ولهدف إعادة بناء الأُمة العراقية ودولتها ودورها المحلي والإقليمي.
وأتفهم مسبقاً ما سيرد على هذه الخلاصة، ثم على الكتاب، من اعتراضات ونقود، وربما اتهامات وتعريض، وهو أمر طبيعي، حيال أفكار قد يكون كثير منها صادماً، ولا ينسجم مع الموروث المعرفي والقومي والديني، ولا مع ما تعلمه بعضنا في المدارس والجامعات، أو تربي عليه في البيت والمجتمع وصفوف التنظيم والجماعة، ولا مع ما قرأه في الكتب والمجلات والصحف.
ورغم أني بذلت جهداً مرهقاً خلال سنوات طويلة لإنجاز هذا المشروع، واعتمدت مئات الكتب والدراسات باللغات العربية والفارسية والإنجليزية، وأخرى مترجمة من الروسية والفرنسية والألمانية والتركية، إلّا أنني لا أزعم أن ما توصلت إليه هو الحقيقة، بل هو غاية ما تمكنت من التوصل إليه، وهو خاضع بالجملة الى التصويب والتعديل، سواء مني في المستقبل أو من غيري من المتخصصين، لأن الدراسات التاريخية والأنثروبولوجية والحفرية، تظل دائماً خاضعة لمبادئ الترجيح والاحتمال والتحليل، لأنه يعتمد بالأساس على معلومات متنوعة في وثاقتها؛ فمنها متواترة وأخرى موضوعة وثالثة متعارضة أو ملتبسة. وبالتالي؛ يكون دور الباحث جمعها وتمحيصها وغربلتها وضربها ببعض وتحليل دوافع كتابها وتدقيق نصوصها ومفرداتها ومصادرها، فضلاً عن اعتماده على مهارته وموهبته في التحليل والكشف والعرض.
وتهدف دراسة مسارات تكوين الأُمة العراقية الى بناء مدخل واقعي لإعادة تشكيل الأمة العراقية، وفق الحقائق التي يفرزها منهج البحث العملي، وما ينطوي عليها من فضح أوهام وتخرصات الدعاية الطائفية التي تشكك بعراقية وعروبة أهل الوسط والجنوب، وتصفهم بالعجم والفرس والهنود والغجر، لمجرد أنهم شيعة آل البيت. وليس الهدف من عرض الحقائق التي يتضمنها المقال، القول بأفضلية السومريين أو العرب على الفرس والهنود والأتراك أو العكس؛ فلا فضل لعربي على أعجمي إلّا بالتقوى.
وقد عرضتُ في الكتاب الأدلة التاريخية والحفرية التي تؤكد أن الأمة العراقية المتمازجة عرقياً وقومياً، من جنوبها الى شمالها؛ هي أعظم وأرقى أُمة عرفها تاريخ كوكب الأرض. ويعد السومريون أصل هذه الأُمة ومحورها، وهم أصل العراق الجنوبي، برغم وجود أقوام سبقت السومريين في استيطان العراق والظهور فيه، منذ عشرة آلاف سنة تقريباً قبل الميلاد، لكنها لم تترك آثار يعتد بها، لكي يمكن الكشف عن تاريخها وحياتها، حالها حال كل الشعوب القديمة التي استعمرت الأرض، وربما انقرض أغلبها، نتيجة عوامل عديدة، في حين أن السومريين الذين ظهروا في العراق في حدود الألف الخامس قبل الميلاد؛ تركوا آثاراً واضحة المعالم نسبية؛ حتى تحولوا الى أحد أهم الشعوب القديمة التي اعتنى بها المؤرخون والآثاريون والأنثروبولوجيون، وصدرت حولهم مئات الكتب وآلاف الدراسات بمختلف لغات العالم.
وأخص الباحثين وأصحاب الاختصاص بهذه الدراسة (الخلاصة)؛ لكيلا يتحول موضوعه عن مساره العلمي الى مساجلات عاطفية آيديولوجية عنصرية، أو اتهامات يستقيها بعض الناس من المناهج الشوفينية العنصرية المحرفة للحقائق والتاريخ، ولا سيما مناهج الكتابة التاريخية التي أسس لها في العراق، المثقف العثماني ساطع الحصري (مدير المعارف في العهد الملكي)، وسارت عليها المناهج المدرسية والمؤلفات والدراسات في عهد حزب البعث.
وأترك ذكر قوائم مصادر البحث ومراجعه الى أصل الكتاب، كما هو سياق عرض الخلاصات والنتائج في البحوث المنهجية، وهي تتجاوز الـ (300) مصدراً بين كتاب ودراسة وتقرير، باللغات العربية والفارسية والإنجليزية، إضافة الى المصادر والمراجع المترجمة عن اللغات الروسية والألمانية والفرنسية.
مشكلة مصادر دراسة تاريخ العراق القديم
أفردت فصلاً خاصاً في كتابي (السومري المستعرَب) لمعضلة مصادر دراسة تاريخ العراق القديم، بما فيه السومري والبابلي والأكدي والآشوري، والشعوب التي استوطنته منذ العصر الحجري وحتى الفتح الإسلامي، وكذلك لغاتها وجذور المصطلحات التي يعتقد أنها موروثة عنها ودلالات هذه المصطلحات؛ فهذه المصادر تشكل مشكلة كبيرة ومركبة للباحث؛ بالنظر لتضارب معلوماتها وتحليلاتها واستنتاجاتها؛ بما في ذلك مصادر المستشرقين والآثاريين والمؤرخين الغربيين. أما البحوث التي صدرت في العهد العراقي العنصري الطائفي (1921 – 2003)؛ فمعظمها لا يُعتمد عليه؛ لأنها بحوث مؤدلجة، وهي على غرار المصادر اليهودية التي تمثل أول تدوين مؤدلج للتاريخ.
وتبقى الكتابات المسمارية التي ترشحت عن الجهود الحفرية؛ فهي الأُخر في كثير منها أساطير؛ بما فيها السردية الذاتية لسرجون الأكدي (شرگون)، والتي تروي سيرته بما يقارب سيرة النبي موسى في ولادته، وإلقائه في النهر ثم العثور عليه من قبل أحد مقربي ملك أوروك، ثم كيف عاش في البلاط حتى كبر وأصبح من قادة جيش الملك. وكذا قصة النبي إبراهيم وتشابهها مع بعض أساطير حمورابي.
وهذا ما يُذكِّر بتشابك المصادر الدينية والتاريخية القديمة (اللوائح المسمارية) والتاريخ القومي للفرس واليونان في موضوعات الإسكندر ذي القرنين والإسكندر المقدوني وكوروش الكبير. ولذلك؛ من خلال قراءاتي للتوراة (العهد القديم) وترجمات المستشرقين للكتابات المسمارية؛ انتهيت الى نتيجة في موضوع المصادر والمصطلحات، وهي أن مدوِّني التوراة أخذوا كثيراً من أساطيرهم من الأساطير السومرية؛ لأن أغلب الأساطير السومرية سبقت التوراة بأكثر من (2500) الى (1500) سنة. وكانت اللغة السريانية هي الممر الذي عبرت من خلاله هذه الأساطير من سومر وبابل باتجاه اليهود في فلسطين والأُردن ومصر.
كيف انقرض السومريون؟ وأين أحفادهم؟
إذا نظرنا الى القوميات الحالية الحية في غرب آسيا؛ فسنرى أن العرب الحاليين هم أحفاد العرب القدماء النازحين من الجزيرة العربية (اليمن والحجاز ونجد)، وأن الفرس الحاليين هم أحفاد الفرس الآريين القدماء، وأن الكرد والآذربيجانيين والگيلكيين الحاليين هم أحفاد الميديين الآريين، وأن البلوش والبشتون أحفاد الفرثيين الآريين، وأن الفيليين واللك والبختيارية هم أبناء القومية اللرية وأحفاد العيلاميين، واليهود أحفاد بني إسرائيل أو العبرانيين الساميين القدماء، والكلدان أحفاد الكلدان الساميين القدماء، والآشوريين أحفاد الآشوريين القدماء، أي أن كل العرقيات والقوميات استمر وجودها الحي أو بعضه، وهو أمر طبيعي.
وحينها سيفرض السؤال نفسه: أين ذهب أحفاد السومريين؟!؛ فإذا كان عدد نفوس البابليين والسومريين لوحدهم يقدر بمليون ونصف المليون نسمة خلال حكم الإمبراطورية الكلدانية البابلية، أي قبل ثلاثة آلاف سنة؛ فإن أحفادهم الآن ينبغي أن لا يقلّوا عن (50) مليون نسمة حداً أدنى؛ فكيف تبخّر هؤلاء!؟.
وينبغي مقاربة هذه الفرضية الإشكالية على نحو الدقة والتفصيل والمنهجية، للعثور على بقايا السومريين، أسوة بوجود واقعي لبقايا الكلدان والآشوريين العراقيين، والتي لا تزال تحتفظ بأنسابها ولغاتها وخصوصياتها القومية، ولم تنسب نفسيها الى القبائل العربية النازحة، وإن كانوا قلة قليلة لا تتناسب مع أعدادهم الكبيرة في مشاهد التاريخ، كما هو الحال مع الشعوب الأمازيغية (البربرية) المتناقصة في شمال أفريقيا، التي بقي بعضها محتفظاً بأنسابه وقبائله وخصوصياته؛ رغم اختلاطه بالقبائل العربية القادمة مع الفتح الإسلامي، ورغم ذوبان الأمازيغ في الإسلام.
وقد قرأت كثيراً عن أصول السومريين وامتداداتهم، في الكتب والدراسات الأجنبية والعربية والعراقية، ولا سيما الكتب والدراسات التي كتبها باحثون متخصصون لم يتأثروا بالمنهج الطائفي والعنصري، لكني لم أتعرف الى الآن على كتاب أو دراسة علمية تشير الى بقايا السومريين الحاليين وقبائلهم وأنسابهم، وهي قضية مهمة تثير الفضول العلمي، أكثر من كونها قضية عاطفية وقومية وسياسية. وقد وجدت بعض الباحثين يسهِّل على نفسه غمار البحث والحفر؛ فيقول إن السومريين انقرضوا نتيجة الحروب الطويلة مع العموريين (البابليين) والعيلاميين (أجداد الفيليين)، وهو ما يذهب إليه المؤرخون “ديلا بورت” و”دياكوف” و”كوفاليف”. والأرجح أن هذه الرأي ــ كما غيره ــ بعيد عن الصواب؛ فإذا كانت الحروب تقضي على الأسر الحاكمة أو الحكام؛ فإنها من المستحيل أن تقضي على شعب كبير بمساحات امتداده الجغرافي، وكثير بعدده، وقوي بعدته. كما لا توجد أية إشارة تاريخية تقول بأن زلزالاً أو طوفاناً أو بركاناً أو خسفاً عظيماً قضى على المليون ونصف المليون سومري وبابلي، أو أن مجازر جماعية أنهت وجودهم.
وبالتالي؛ حاولت في هذا الكتاب أن أصل الى مخرجات وتوقعات، من خلال البحث والتقصي، تتمحور حول ثلاثة عوامل متداخلة:
1- التشتت الجغرافي للسومريين، والذي بات يمتد بعد حملات الإمبراطور شروگين (سرجون الأكدي) العسكرية، من الكويت الحالية وحتى جنوب تركيا الحالية، والتداخل مع شعوب المناطق الجديدة، التي تشكل كثافة عددية أكبر، الى حد الذوبان.
2- تفرع شعوب وأقوام جديدة عن السومريين أنفسهم، نتيجة التمدد الجغرافي، ثم اختلطوا بدورهم بشعوب أخرى، وتعملقوا على حساب القومية السومرية الأم، كالأكديين والآشوريين، والذين يشكل السومريون قاعدة تشكيلهم القومي.
3- الاستعراب السريع، وتحديداً بعد الفتح الإسلامي للعراق، وهو عامل شمل جميع القوميات العراقية المؤسسة. وهذا السبب المهم، كان وراء تسمية هذا الكتاب «السومري المستعرب».
وبالرغم من النتائج القيصرية المذكورة التي خرجت بها بشأن انقراض السومريين، وكذلك الأقوام البابلية (العموريون بالدرجة الأساس، ثم الكلدان، ومن اختلط بهم من سومريين ونبط وكاشيين وميديين وفرس)؛ فإن هناك فرضية مهمة تتعلق بشريحة (الشروگ) في العراق؛ فكثير من الأدلة والتحليلات تشير الى أنهم بقايا السومريين وأحفادهم. ومنها تسمية (الشروگ) نفسها؛ فهي تسمية سومرية أصيلة، مشتقة من اسم (شروگين)، إمبراطور الدولة الأكدية السومرية، والذي يعرف في المدونات التاريخية المعربة باسم (سرجون) الأكدي. والتحليل التاريخي يقودنا الى أن شروگين (سرجون) قاد أفراد جيشه المنتمين الى اسمه، أي الشروگ أو الشروگيين، ليزحف باتجاه ممالك وادي الرافدين ليوحدها من الفاو وحتى شمال الموصل. وبذلك؛ يكون الشروگيون هم المؤسسون الأصليون للعراق بشكله الطولي القريب من شكله الحالي.
وتوصيف (الشروگ) أوسع من توصيف سكان منطقة محددة في جنوب العراق، كمحافظة ميسان مثلاً، بل تشمل تاريخياً سكان محافظات البصرة وميسان وذي قار والمثنى، أي جميع المناطق التي تأسست فيها الممالك السومرية وتمركز جيشها الشروگي قبل انطلاقه شمالاً. وتحديداً المناطق الممتدة من الوركاء في محافظة السماوة وحتى الفاو في أقصى جنوب محافظة البصرة، والتي تضم المدن والمناطق المحيطة بأهوار الچبايش والشيب وکرمة علي والعمارة والحمّار وأُم النعاج والعظيم والفهود والترابة والمالح والسعدية، وهي التي كانت يوماً عواصم لأُولى الممالك والدول في العالم، كأوروك وأور وكيش وأريدو ونيبور ولكش وغيرها.
بدايات وجود العرب في العراق
لم تكن الشعوب القديمة التي وجدت في العراق (حدود العراق الجغرافية الحالية)؛ شعوباً عربية؛ بل هي شعوب متنوعة عرقياً وقومياً؛ فمنها السومرية ومنها العيلامية (أجداد الفيليين)، ومنها السامية، كالكلدان والآشوريين والعموريين، ومنها قوميات آرية، كالأكراد الميديين والفرس. وقد كان العرب هم آخر الشعوب السامية التي سكنت العراق، فيما لو أذعنا بأن قحطان هو أبُ العرب العاربة وعدنان هو أبُ العرب المستعربة، وفق الموروث التاريخي العربي. أي أن الشعوب السامية التي وجدت في العراق قبل العرب ليس منها من ينتسب الى قحطان وعدنان.
ودليل ذلك؛ أن النبي إبراهيم كان آرامياً نبطياً ويتكلم السريانية، ولم يكن عربياً ولا يهودياً؛ بل أنه أبو العرب من أبناء عدنان، كما هو أبو اليهود من أبناء يعقوب، وغيرهما من الشعوب المنسوبة إليه، ولم يكن أباً لعرب قحطان اليمنيين، الذي سبق وجودهم زمان النبي إبراهيم. ووفق الموروث التاريخي فإن اسحق ابن إبراهيم من زوجته سارة هو جد الشعب اليهودي، من خلال حفيد ابنه يعقوب (واسمه الأصلي إسرائيل)، الذي هو أبُ بني إسرائيل؛ أي أن القرآن عندما يخاطب بني إسرائيل؛ فإنه يخاطب بني يعقوب (اليهود).
أما إسماعيل الابن الثاني لإبراهيم من زوجته هاجر؛ فهو مستعرَب بواسطة قبيلة جرهم العربية اليمنية القحطانية النازحة الى مكة بعد انهيار سد مأرب، والتي عاش إسماعيل معها وفي كنفها وتزوج من امرأة جرهمية، والتي هي أم العدنانيين، وعدنان هو حفيد ابن إسماعيل، أي أنّ العدنانيين الحجازيين المستعرَبين هم عرب قحطانيون يمنيون من ناحية الأم، وفق الموروث التاريخي العربي. وبناء عليه؛ فقد كان ظهور العرب في مكة (الحجاز) وظهور اليهود في سيناء، متزامناً تقريباً من الناحية التاريخية، أي في حدود القرن الخامس قبل الميلاد، وهو ظهور متأخر كثيراً على ظهور عرب اليمن (الحميريين والكهلانيين).
ومن هنا؛ فإن وجود الشعوب السومرية والآشورية والعمورية والكلدانية والآرامية في العراق سابق لولادة إبراهيم، وسابق بكثير لظهور عرب الحجاز الإسماعيليين العدنانيين المستعرَبين، والذين يعود أصلهم الى العراق أساساً، تبعاً لأبيهم العراقي النبطي إبراهيم، وفق الموروث التاريخي. ودليل ذلك؛ أن إبراهيم عندما بُعث لبابل الكلدانية ثم لأوروك السومرية؛ فانهما كانتا حضارتين عريقتين كبيرتين في مساحتهما الجغرافية، وتضمان شعبين كبيرين في عددهما، وقديمين جداً في ظهورهما في وسط العراق وجنوبه. وبالتالي؛ فان السومريين والبابليين شعبان عراقيان حضاريان؛ سبق وجودهما نزوح القبائل الجزيرية واليمنية الى العراق بآلاف السنين.
ويعود وجود التجمعات العربية اليمانية والحجازية المهاجرة الى العراق؛ الى ما قبل الفتح الإسلامي ببضع مئات من السنين، لكن النزوح الأهم والأكبر هو نزوح قبيلة (المناذرة) اللخمية العربية اليمنية الى العراق، قبل الفتح الإسلامي بثلاثة قرون تقريباً، ونزولها في منطقة الحيرة التي تحولت الى عاصمة للعراق الأوسط، وكان التنوخيون العرب الذين ينتسب إليهم المناذرة اللخميون؛ قد هاجروا في بادئ الأمر الى بلاد الشام بعد انهيار سد مأرب في القرن الأول قبل الميلاد، وهو تاريخ أول استيطان للعرب في الحجاز وبلاد الشام، ثم هاجر قسم منهم الى العراق، وهم المناذرة.
لغات المكونات القومية في العراق قبل الفتح الإسلامي
كانت أراضي العراق بحدوده الحالية، قبل الفتح الإسلامي في الفترة من 12 ــ 14 ه (632 ــ 634 م)، خاضعة لحكم الإمبراطورية الساسانية الفارسية لأكثر من (400) سنة، كما كان يتقاسمها آنذاك عدد من المكونات القومية والعرقية، وهو تقاسم سكاني مجتمعي. ورغم أن لغة الدولة وأجهزتها ظلت فارسية قرون طويلة، إلّا أن القصد هنا ليست لغة الدولة الرسمية أو لغة الأُسرة الحاكمة، بل نقصد لغات الشعوب والقوميات الموجودة داخل حدود العراق الحالية، وهي على النحو التالي:
1- مناطق جنوب العراق، كمحافظتي البصرة وذي قار الحاليتين وأجزاء من محافظات المثنى وميسان والقادسية الحالية، كانت سومرية ونبطية، وتتحدث باللغات السومرية والآرامية (النبطية) والسريانية.
2- أراضي جنوب شرق العراق، ومنها أجزاء من محافظتي العمارة وواسط الحاليتين؛ كانت عيلامية (عرقية أجداد الفيليين)، وتتحدث باللغة العيلامية.
3- مناطق مملكة المناذرة، وتضم أجزاء من محافظات المثنى والقادسية والنجف الأشرف الحالية، وهي عربية ويتكلم سكانها اللغة العربية.
4- مناطق الفرات الأوسط وما يجاورها، وتحديداً محافظات كربلاء وبابل ومحافظة بغداد وغرب محافظة واسط وجنوب محافظة صلاح الدين الحالية؛ فكانت بابلية، وتتحدث بلغات الشعوب البابلية، كالأكدية والكلدانية والعمورية.
5- أراضي شرق العراق، وصولاً الى الحدود العراقية الإيرانية الحالية، أي شرق محافظة بغداد ومحافظة ديالي الحاليتين؛ كانت فارسية وتتحدث باللغة الفارسية.
6- أراضي شمال شرق العراق، وتحديداً محافظة السليمانية وجزء من محافظة أربيل الحاليتين؛ كانت كردية ويتحدث أهلها باللغة الكردية.
7- أراضي شمال العراق، وخاصة مناطق محافظات كركوك ونينوى ودهوك وشمال محافظة صلاح الدين وأغلب محافظة أربيل؛ كانت آشورية وتتحدث باللغتين الآرامية والأكدية وغيرهما.
8- كانت اغلب مناطق غرب العراق، وخاصة غرب محافظة نينوى ومحافظة الأنبار الحاليتين، صحراء وبادية غير مسكونة، عدا عن بعض الثكنات العسكرية الفارسية وبعض التجمعات القبلية لقوميات متعددة، كالعموريين والآراميين (النبط) والعرب (امتداد مملكة المناذرة).
ولم تكن تسمية العراق (بحدوده الحالية) موحدة حينها، بل يحمل عدة تسميات، وفق القوميات والعرقيات والدول الموجودة على كل جزء من أراضيه التي توحدت فيما بعد، وكان أحد هذه التسميات العراق، وهو ليس اسماً عربياً، بل اسما معرّباً للتسمية السومرية (أوروك) أو التسمية الآرامية (أراكيا)، بينما كانت تسمى عند اليونانيين (ميزوبوتاميا)، وهي ترجمة للمصطلح الآرامي (بين نهرين أو بيت نهرين)، أي أن هذه التسمية التي كانت تعد شاملة؛ فهي كانت تقتصر على مناطق بين دجلة والفرات، ولا تشمل شرق دجلة وغرب الفرات.
كيف استعرب العراقيون؟
كانت بداية التعريب والاستعراب في العراق مع تأسيس مملكة المناذرة العربية المسيحية التابعة للإمبراطورية الفارسية في العراق، في العام 268 م، وكان هذا التعريب الذي يستهدف السكان الأصليين، وخاصة السومريين؛ مقتصراً على بعض مناطق الفرات الأوسط، وخاصة أجزاء من محافظات المثنى والقادسية والنجف الأشرف الحالية، ولم يمتد باتجاه أي من مناطق الفرات الأوسط والجنوب والشمال العراقية، بل انحرف ممتداً باتجاه غرب العراق. كما كان جزء من أراضي محافظة نينوى الذي تقطنه قبيلة تغلب، وهو ما عُرف بديار ربيعة، يتحدث باللغة العربية، وبالقرب منه، أي جنوب غرب الموصل، كانت هناك مملكة الحضر (عربايا) العربية، وكذلك جزء من صحراء جنوب العراق، وتحديداً غرب محافظتي البصرة وذي قار، الذي تسكنه بعض القبائل العربية، مثل قبيلة شيبان، أي أن 80 بالمائة من العراق الحالي لم يكن عربياً ولا يتحدث بالعربية عند دخول الفاتحين العرب المسلمين الى العراق (بخارطته الحالية).
وبحضور العرب الى العراق بهجرة المناذرة الى الفرات الأوسط وهجرة بني تغلب الى شمال العراق، ثم هجرات ما بعد الفتح الإسلامي؛ اكتملت حلقات تكوّن الأمة العراقية التي تأسست فيما عرف بالعراق بحدوده الحالية، وليس عراق بين النهرين وحسب، بأجناسها وقومياتها الأصلية: السومرية والعمورية والكلدانية والآشورية والعربية واليهودية (ساميين)، واللرية (عيلاميين)، والفارسية والميدية (آريين). وهذا العراق المتعدد القوميات، هو العراق الأصيل، وبدون هذا التعدد المتعايش لا يكون العراق عراقاً.
وبالنظر لكثافة الهجرة العربية بعد الفتح الإسلامي للعراق، وتحول العرب الى قومية حاكمة؛ فإن السومريين العراقيون أصبحوا جزءاً من عرب القبائل النازحة، بدءاً بكندة وكلاب وتميم وبكر وخزاعة وانتهاء بمذحج وطي ووائل وشيبان وربيعة وغيرهم. والحال أن هذه القبائل ليست عراقية بالأصل وانما جزيرية ويمانية. وهو أيضا ينطبق على جميع الأسر العلوية (السادة)، التي جاءت الى العراق مع الفتح الإسلامي منذ (1400) سنة فقط.
ويشاء التطور التاريخي أن يتحول العراق الى بلد عربي لغوياً وقومياً وليس جينالوجياً، ويكون الشعب العربي هو الغالب عدداً وعدة ونوعاً؛ لتصل نسبته تدريجياً الى أكثر من 70 بالمائة من نفوس العراق. ولكن مما لا شك فيه أن من بين هذه النسبة مستعربين كُثُر، بل لعلهم أكثر عدداً من العرب الأقحاح (الذين تجمعهم رابطة النسب والدم)، ولا سيما من القوميات الكلدانية والسومرية والفارسية والكردية والتركية واللرية (القومية التي ينتسب إليها الفيليون وأشقاؤهم اللك والبختيارية والكلهورية والممسنية والبويرية). وبمرور الزمن، وبمنطق التعايش وبقدرة العرب المعروفة بعد الإسلام، على احتواء الآخرين؛ أصبح هؤلاء المستعرَبون جزأً لا يتجزأ من هذه القبائل العربية، ويحملون ألقابها وأسماءها، لكي تتبلور هوية العراق القومية، وتكون هذه الهوية العربية هي ركيزة الاستقرار الوطني الأولى؛ لأن كل بلد أصيل لابد له من أكثرية سكانية، قومية أو مذهبية، تكون بمثابة الشقيق الأكبر والحاضن للقوميات الشقيقة المتعايشة في الوطن الجغرافي السياسي.
وإذا رجعنا الى تاريخ هجرة أجداد العشائر الحالية في الجنوب العراقي، والقادمة من نجد والحجاز وبادية الأردن والشام؛ فإنه لا يتجاوز (300 ـــ 1800) عام، وهذا لا يسمح لها أن تتكاثر بعشرات الملايين. والحال أن العراقيين الأصلاء السومريين (أكثرية سكان الجنوب)، استعربوا نتيجة خضوعهم لسلطة هؤلاء المستوطنين وحملوا أسماء عشائرهم بالتدريج.
والملاحظ أن مئات المفردات التي يستعملها سكان جنوب العراق في لهجتهم المحلية المحكية، هي سومرية، فضلاً عن اللغات القديمة الأخر، كالسريانية والكلدانية واللرية (الفيلية)، بل حتى قواعد صياغة الجملات والاختصارات اللغوية المحلية تعود الى السومرية غالباً، وهي لغة الجنوب الأصلية. كما أن أكثر من نصف أبناء العشائر العربية في مناطق الأهوار المختلفة من الچبايش الى الحمار، وكذلك عشائر شمال البصرة والعمارة والناصرية والسماوة هم سومريون مستعربون. كما أن كثيراً من أبناء عشائر واسط وديالى وشرق العمارة هم من اللر والفرس والكرد المستعرَبون، أي أن أغلب أبناء جنوب العراق ووسطه هم عراقيون أصلاء، تمتد جذورهم في العراق الى آلاف السنين، وليسوا عرباً مستوطنين ونازحين بعد الفتح الإسلامي.
ومن أبرز القوميات المهمة التي استعرب أغلب أبنائها، هي القومية اللرية (الفيلية)، وهي قومية تعود إلى أصول عرقية عيلامية. واللر (الفيليون) هم أهل حضارة عريقة، وهم من سكان جنوب شرق دجلة، وهم ليسوا كرداً ولا فُرساً، وإن اختلط فيهم الكرد والفرس والكاشيين، بسبب التداخل الجغرافي؛ فالكرد هم ميديون آريون نازحون من آسيا الوسطى الى غرب إيران، ثم هاجروا الى شمال العراق الحالي قبل أكثر من (2500) سنة، وكذلك الفرس هم قومية آرية نازحة من آسيا الوسطى الى وسط إيران، ثم استوطن قسم منهم شرق العراق في الفترة نفسها تقريباً، في حين أن جذور اللر (الفيليين) في العراق الحالي، أي وفق حدود العراق الحالية وليس عراق ما بين النهرين، تعود إلى آلاف السنين، حالهم حال السومريين.
وسكان جنوب العراق الحالي هم أصل العراق، وهم مؤسسو العراق وبناة حضاراته منذ ستة آلاف عام، ولولاهم لما كان هناك بلد أسمه العراق؛ لأن اسم العراق اسم سومري مشتق من أوروك التي تقع في محافظة ذي قار حالياً، إحدى عواصم الحضارة السومرية. فالعراق الأصلي، في الحقيقة، هو أوروك وهو ممالك سومر في جنوب العراق، ثم الإمبراطورية الأكدية، التي انطلقت من كيش في محافظة البصرة الحالية، ووحّدت ممالك سومر ثم بابل ثم آشور، وأشادت العاصمة السومرية الجديدة (أكد) في الفرات الأوسط. وفي عهدها تشكل العراق طولياً بصورته القريبة من شكله الحالي، أي بين النهرين والوادي الخصيب، الذي يمتد من الفاو وحتى شمال الموصل.
ولم يكن عدد عرب الجزيرة الذين فتحوا العراق أو الذين هاجروا إليها فيما بعد، يزيد عن مائة ألف في أفضل تقدير، بينما كان عدد السومريين والبابليين والعيلاميين والفرس يزيد عن ثلاثة ملايين نسمة. وقد اختفى وجودهم فيما بعد؛ فإذا قلنا أنهم ذابوا؛ فكيف تذوب هذه الملايين في المائة ألف عربي جزيري؟. وحل شيفرة الذوبان هذا يكمن في طريقة التذويب، والمتمثلة بالتعريب التلقائي أو القسري؛ فقد كان كل واحد من العرب الفاتحين الغالبين، يقتطع أراضي عراقية شاسعة، بما فيها من مزارع وحيوانات وممتلكات وبشر مسالمين، ويتحول الرجال الى عاملين وحرس لديه، وينخرط الباقون في جيش الفتح العربي. أما النساء فيتحولن الى زوجات وإماء أو عاملات، وترسل أعداد منهن الى مدن الجزيرة. وبمرور الزمن أخذ العامل والفلاح والجندي العراقي (السومري والبابلي والعيلامي والفارسي والكلداني) يحمل اسم قبيلة عشيرة الفاتح العربي الجزيري، أي يصبح جزءاً من قبيلته وعشيرته وأسرته.
وبمرور السنين، بات العراقيون السومريون والبابليون، وأغلب العيلاميين والفرس والكلدان داخل حدود العراق الحالية، يتحدثون العربية فقط، وبذلك انقرضت اللغة السومرية وخطها وحروفها، وكذا البابلية، وكذا الأكدية التي كانت لغة الإمبراطورية العراقية، بعد أن تعرّب أكثر العراقيين. أما لماذا انقرض البابليون والسومريون دون غيرهم من شعوب الأمة العراقية، وذابوا تماماً بعرب الجزيرة الفاتحين، فلذلك سبب أساس، لأنهم كانوا في وسط العراق وجنوبه، وليست لهم امتدادات قومية بعيدة جغرافياً، على العكس من العيلاميين والكرد والفرس والكلدان والآشوريين، إذ احتفظ كثير من هؤلاء بلغتهم الأصلية وبانتمائهم القومي، لأن العيلاميين (أجداد الفيليين) يمتدون من العمارة والبصرة وواسط وديالى الى عمق خوزستان ولرستان وإيلام، ويمتد الفرس الى أعماق إيران وصولاً الى شرقها، ويمتد الكرد الى أعماق ايران أيضاً، وصولاً الى همدان عاصمة أجداهم الميديين. أما الكلدان والآشوريين؛ فإن من احتفظ منهم بدينه المسيحي؛ فإنه بقي محافظاً على لغته وقوميته، أما من أسلم منهم؛ فقد استعرب لغة وقومية.
وبالتالي؛ فإن العراق بصيغة الحالية كان نتاج ما بعد الفتح العربي الإسلامي، واستمر إنتاجه مئات السنين، حتى أخذ شكله الحالي كنتاج لمعاهدة سايكس ــ بيكو بين بريطانيا وفرنسا في العام 1916، والتي نصّت على تشكيل دولة تحمل اسم العراق تتكون من ثلاث ولايات عثمانية، هي البصرة وبغداد والموصل، ولم تكن الدولة العثمانية حين قسّمت هذه الولايات تأخذ بنظر الاعتبار الوحدة الجغرافية أو التاريخية أو القومية أو العرقية أو السياسية، بل قسّمتها على أساس إداري ـ فني.
المكونات العرقية والقومية للأُمة العراقية
تتكون الأمة العراقية في حدود العراق الحالية، من عرقيات وقوميات وشعوب متنوعة، بعضها قوميات مؤسسة للعراق الأصلي (جنوب العراق) قبل ستة آلاف سنة، وبعضها مؤسسة للعراق الوسيط (الجنوب والفرات الأوسط) قبل خمسة آلاف سنة، وبعضها قوميات مؤسسة للعراق الإمبراطوري وحضارة وادي الرافدين (العراق الطولي بين دجلة والفرات من شماله الى جنوبه) قبل أكثر من أربعة آلاف سنة، وقسم منها مؤسس للعراق الإسلامي ذي الولايتين (البصرة والكوفة) قبل (1,400) سنة، وبعضها مؤسس للعراق العثماني ذي الثلاث ولايات (الموصل، بغداد والبصرة) .
وقد تزامن قيام العراق الطولي (بين نهري دجلة والفرات) على يد السومريين، مع وجود شعوب أخرى في أراضي العراق الحالي، وتحديداً في شرق دجلة، من شماله الى جنوبه، وهي ليست من شعوب بين النهرين، ولا تنتمي الى حضارة وادي الرافدين، ولا تخضع لسلطاتها، إنما لها حضاراتها وسلطاتها ودولها المنفصلة والمستقلة، وسبق أن استوطنت هذه الأراضي الخالية من السكان، أو هاجرت إليها بالتدريج الى ما قبل الفتح الإسلامي، وأهمها: العيلاميون (أجداد اللر الفيليين) في جنوب شرق العراق، والكاشيون في شرق العراق، والفرس الآريون في شرق العراق، والميديون الآريون، أجداد الكرد، في شمال شرق العراق. وهي شعوب أصيلة في هذه الأراضي والمناطق، وليست محتلة أو غازية، لأن العراقيين القدماء كانوا يسكنون ضمن منطقة بين النهرين (دجلة والفرات)، وخاضعين لسلطات ملوك ورؤساء وإمبراطورين من الشعوب نفسها، رغم وجود غزوات واحتلالات متبادلة بين الدول والإمبراطوريات العيلامية والسومرية والآشورية والفارسية والكاشية لعواصم ومدن بعضها الآخر. أما وجود العرب في هذه المناطق (شرق دجلة) فقد حدث بالتزامن مع الفتح الإسلامي.
وقد اختلطت الشعوب السومرية والعمورية والآرامية والنبطية والكلدانية والآشورية ببعضها، نتيجة الهجرات والاحتلالات والحروب، ثم اختلطت معها الشعوب الكردية والفارسية والكاشية والعيلامية (اللرية الفيلية مجازاً) في شرق دجلة وشمال غرب الفرات، ثم اختلطت مع العرب الفاتحين وذاب أغلبها فيهم، ثم اختلطت مع الترك والقوميات الأُخر المهاجرة بعد الفتح الإسلامي، وباتت بمجموعها تمثل القوميات المؤسسة للعراق في خارطته الحالية، نتيجة الهجرات والغزوات والاحتلالات وتأسس الدول والإمبراطوريات الجديدة، والتي كانت تمتد حياتها أحياناً الى (500) سنة تقريباً.
وبالتالي؛ فإن الأُمة العراقية الحالية، التي تعيش في حدود العراق الحالي، تعود بأصولها الى العرقيات والمكونات القومية التالية: السومريون، العيلاميون (أجداد اللر الفيليين)، الآريون (الفرس والميديين الكرد)، الساميون (الكلدان، العموريون، الآراميون، النبط، اليهود، العرب)، الطورانيون (التركمان وأتراك الأناضول).
أما الآشوريون والبابليون والأكديون؛ فهم شعوب منسوبة الى العرقية السامية، لكنهم في الأصل ليسوا قوميات مستقلة، بل هم خليط قومي أساسه السومريون الفاتحون والمهاجرون من جنوب العراق؛ فقد نشأ الشعب الآشوري قبل حوالي (4500 سنة) من خليط سومري من جنوب العراق بالدرجة الأساس، إضافة الى الكلدان والآراميين من الفرات الأوسط، ثم الحثيين والحوريين من مناطق شمال العراق الحالي. وتأسست إمبراطوريتهم في شمال العراق، وكانت عاصمتها تقع في جنوب محافظة نينوى الحالية.
وهكذا الحال بالنسبة للبابليين؛ فهم شعب خليط من عدة قوميات، ويعود نشوؤهم الى العمورييين المهاجرين من بادية سوريا قبل (5.000) سنة تقريباً، وأسسوا مدينة بابل، وكانت منطقة خاضعة للسومريين، ثم سيطر الكلدانيون على بابل، ثم الحثيون ثم الكاشيون ثم الفرس. ولذلك؛ فإن البابليين هم خليط من العموريين والآراميين والكلدانيين والكاشيين والفرس، وموطنهم الأصلي الفرات الأوسط، ثم تمددوا في أراضي بين النهرين حتى الشمال.
وهناك مكونات عراقية أُخرى، كالصابئة والإيزديين والشبك والزرادشتيين، لكنهم ليسوا قوميات؛ فالصابئة في جنوب شرق العراق هم أتباع ديانة، وتعود أصولهم الى السومريين والعيلاميين والكلدان والعرب غالباً، وهكذا بالنسبة للإيزديين في شمال العراق؛ فهم أيضاً ديانة وليسوا قومية؛ إذ فيهم عرب وفرس وكرد. وكذلك الزرداشتيين في شمال العراق؛ هم خليط من الفرس والكرد. أما شعب الشبك في محافظة نينوى؛ فهم خليط مندمج من الفرس والآذريين والكرد والتركمان، برغم استقلالية لغتهم، والتي هي أيضاً خليط لغوي من القوميات الأربع المندمجة المذكورة.
ونؤكد بأن تقسيم العرقيات هنا الى سومرية وعيلامية وآرية وسامية وطورانية، كما هو الحال مع العرقيات القوقازية والسلافية، هو تقسيم افتراضي، يضطر إليه جميع الباحثين، بغرض التمييز بين الشعوب والناطقين باللغات المختلفة، وهي تقسيمات وتسميات أسّس لها علماء التاريخ والأنثرولوجيا الأوربيون خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلادييين، وأبرزهم المؤرخ الألماني “أوغست لودفيغ شلوتسر”، بناء على الموروث التوراتي اليهودي، ثم طوّره المفكرون النازيون الألمان، وإلّا فإن التقسيمات العرقية المذكورة لا تشكل حقيقة علمية ثابتة.
1- السومريون:
تُظهر أغلب الأدلة التاريخية والحفرية أن السومريين عرق مستقل جينالوجيّاً، ليس سامياً ولا آرياً، إن صحت هذه التسميات الغربية الحديثة غير الدقيقة. والسومريون هم أصل تكوين العراق ونشوئه ومؤسسو بلاد وادي الرافدين من جنوبه إلى شماله، قبل هجرات العموريين والنبط والآراميين والكلدان والكاشيين والميديين والفرس والعرب، وربما هم امتداد للسكان الأوائل التي استوطنوا جنوب العراق قبل عشرة آلاف سنة. وبذلك؛ فهم يشبهون العيلاميين في استقلالهم العرقي، والذين يعدون أول من سكن إيران، وذلك قبل هجرات الآريين من الفرس والميديين والفرثيين.
وقد ظهر السومريون – ابتداء – في جنوب العراق قبل (7,000) سنة تقريباً، وتحديداً في محافظات المثنى وذي قار والبصرة وميسان، وأسسوا أول المدن- الدول في العالم، مثل: أوروك، أريدو، لاگش، أور، كيش ونيبور. ثم؛ بعد تأسيسهم الإمبراطورية الأكدية (بين النهرين) في العام (2340) قبل الميلاد، استوطنوا أيضاً مناطق الفرات الأوسط وشمال العراق، أو ما يضم حالياً محافظات القادسية والنجف وكربلاء وبابل وصلاح الدين ونينوى، إضافة الى جزء من شرق الشام وجنوب تركيا. وبذلك؛ تمكن السومريون بقيادة شيروگين (سرجون الأكدي) من تأسيس العراق بشكله الطولي من الفاو وحتى زاخو، والذي مثّل حضارة (بين النهرين)، لأول مرة في التاريخ. وكان يُقدّر عدد سكان الإمبراطورية الأكدية السومرية بحوالي مليون ونصف المليون نسمة، في أوج توسعها.
وقد خرج الأكديون من السومريين؛ إذ يشكل السومريون المادة البشرية الأساسية للشعب الكلداني، ثم اختلط جزء من السومريين بالشعوب الكلدانية والعمورية في بابل. كما خرج الآشوريون من السومريين، إذ أصبح الآشوريون شعباً مستقلاً موحداً، وهم بالأصل خليط قومي، يشكل الأكديون السومريون مادته البشرية الأساسية.
2- العيلاميون:
العيلاميون عرقية مستقلة أيضاً، ليست آرية ولا سامية، وفق أهم الأدلة التاريخية والحفرية، ويبلغ عمرها أكثر من عشرة آلاف سنة، ويعود وجودها في إيران الى العصر الحجري، وإليها ترجع أصول القومية اللرية التي ينتمي إليها الفيليون واللك والبختيارية والكلهورية والممسنية والبويرية، والذين يشكلون بمجموعهم (34) قبيلة شقيقة. ويتواجد 25 بالمائة من أبناء القومية اللرية العيلامية (الفيليون مجازاً) في العراق الحالي، و75 بالمائة في إيران الحالية. والعيلاميون عرقية عريقة أقامت أول حضارة في جنوب غرب إيران قبل 4 آلاف سنة قبل الميلاد، وعاصمتها شوش في محافظة خوزستان الإيرانية حالياً.
وكانت الحضارة العيلامية مجاورة للحضارة السومرية، وكانتا متنافستين وتؤثران ببعضهما سلباً وإيجاباً، من النواحي المعرفية واللغوية والزراعية والصناعية والتجارية والعسكرية ومتعاونة معها، وخاضتا حروباً كثيرة، كما عاشتا مراحل طويلة من التعاون والتحالف. وكانت أراضي الحضارة العيلامية تمتد الى شرق دجلة داخل أراضي العراق الحالي (حالياً: خوزستان ولرستان وإيلام في إيران وأجزاء من ديالى وواسط والعمارة والبصرة في العراق). أي أن هذه المناطق هي مناطق لرية عيلامية أصيلة، وقد سكنها أجداد الفيليين قبل ستة آلاف سنة، أي قبل هجرات الكاشيين والآريين الفرس والميديين (أجداد الكرد)، وقبل هجرات العرب الأولى (المناذرة والتغالبة اليمانيون) الى العراق بأكثر من ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة. ولم يكن العيلاميون (أجداد الفيليين) جزءاً من حضارة وادي الرافدين أو جزءاً من جغرافيتها، إنما كانوا جزءاً من جغرافيا شرق العراق الحالي، وتحديداً في جنوب شرق دجلة.
وهنا نعيد التأكيد، كما فصّلنا في دراسة سابقة، على أن الفيليين هم من القومية اللرية ومن أحفاد العيلاميين، وليسوا كرداً، ولا من القبائل المتنقلة الرحّل ولا من سكان الجبال، بل من سكان السهول غالباً، وقد تواجدوا في إيران والعراق الحاليين قبل هجرة الفرس والميديين (أجداد الكرد) إلى إيران بآلاف السنين. وبالتالي؛ لا يمكن للفيلي اللري العيلامي الذي عمره عشرة آلاف سنة في المنطقة، أن يكون جزءاً من العرقية الكردية الميدية الآرية التي عمرها في إيران أربعة آلاف سنة حداً أعلى. وهذا الوهم يشبه وهم القائلين بأن السومريين أصلهم عرباً، في حين أن ظهور السومريين في العراق سبق ظهور العرب في الجزيرة بأربعة آلاف سنة.
وبذلك يكون السومريون (بلاد وادي الرافدين) والعيلاميون (شرق بلاد وادي الرافدين)، أول شعبين يستوطنان العراق بحدوده الحالية. وقد تعاونا معاً في حقب كثيرة لصد الغزوات الآشورية، ودخول أراضيها.
3- الساميون:
القوميات السامية – إن صحت التسمية – هي من أوائل القوميات والشعوب التي سكنت عراق ما بين النهرين، وخاصة الآراميين والنبط والعموريين والكلدان واليهود والعرب:
أ- العموريون:
شعب ينتمي الى حضارة وادي الرافدين، نزح من بادية الشام والأردن الحالي، واستوطن بابل، التي كانت حاضرة صغيرة أسسها السومريون؛ فقضوا على الوجود السومري وأسسوا دولة مستقلة بهم، حتى تحولت إلى إمبراطورية تشمل كثيراً من أراضي وادي الرافدين وغرب الفرات.
ب- الكلدان:
وهم شعب ينتمي الى حضارة وادي النهرين، وموطنه الأصلي الفرات الأوسط، وكانوا حكام بابل وأباطرتها قبل (4500) سنة، بعد أن قضوا على العموريين، حكام بابل الأصليين.
ت- الآراميون والنبط:
يذهب أغلب المؤرخين والآثاريين والأنثروبولوجيين الى أن النبط هم آراميون، فيما يرى جزء من الموروث التاريخي العربي إلى أن النبط هم عرب، وهو رأي لا يستقيم مع تواريخ ظهور القوميات في الجزيرة العربية وتمددها باتجاه الشمال، وخاصة العراق والشام، ولا مع الآثار المكتشفة ومفردات اللغة النبطية الآرامية، وبالتالي؛ فالأرجح هو أن النبط آراميون من سكان الأردن الحالية، وكانت البتراء عاصمة دولتهم. وقد نزح بعض القبائل الآرامية والنبطية من سوريا والأُردن باتجاه جنوب العراق ووسطه، واختلطوا بالشعوب العراقية السابقة لهم، وأثروا وتأثروا بها. وحسب الموروث الديني والتاريخي التوراتي والعربي؛ فإن النبط هم أجداد اليهود والعرب المستعربة، من خلال النبي إبراهيم، وهو نبطي عراقي؛ إذ ينتمي اليهود إلى ولده إسحاق من زوجته سارة، وينتمي العرب المستعربة إلى ولده إسماعيل من زوجته هاجر.
ث- اليهود:
اليهود أو العبرانيون؛ ديانة وقومية، استوطن بعضهم في بابل، بعد أن سباهم الإمبراطور البابلي نبوخذ نصر الثاني مرتين، وجلبهم من أرض كنعان (فلسطين الحالية) في الأعوام 582- 587 قبل الميلاد، أي قبل (2,600) سنة، ثم انتشروا في مناطق الفرات الأوسط. وقد عاد قسم منهم الى فلسطين وسيناء ومصر خلال الاحتلالين الفارسي والمقدوني لبابل. أما الذي بقي في العراق بعد الفتح الإسلامي؛ فقد أسلم واستعرب، أو بقي محافظاً على دينه وقوميته اليهودية، حاله حال القليل من الكلدان والآشوريين المسيحيين، كما هاجر قسم منهم الى إيران والأناضول والقوقاز، وصولاً الى روسيا.
ح- العرب:
وصل العرب الى العراق بعد تأسيس عراق بين النهرين الطولي، عبر هجرتين كبيرتين، إحداهما هجرة قبيلة المناذرة اللخمية اليمنية في حدود سنة 30 قبل الميلاد، أي قبل حوالي (2,100) سنة، وهو أول وجود للعرب في العراق؛ إذ استوطنوا الحيرة وأسسوا مملكتهم في الفرات الأوسط وصولاً الى غرب العراق الحالي في سنة 268 م، والثانية هجرة قبيلة تغلب اليمنية، واستوطنوا شمال العراق، وتحديداً الموصل الحالية وضواحيها وسهل نينوى، وهو ما كان يسمى ديار ربيعة، وبالقرب منه، أي جنوب غرب الموصل، كانت هناك مملكة الحضر (عربايا) العربية. وكلا الحاضرتين التغلبية والحضرية كانتا مسيحيتين.
كما اتخذ المناذرة والتغالبة المسيحية النسطورية ديناً فيما بعد. وبنو تغلب هم أجداد الحمدانيين (مؤسسو الدولة الحمدانية في شمال العراق وبلاد الشام). ثم جاءت الهجرات العربية الكثيفة الحجازية والنجدية واليمنية بعد الفتح العربي الإسلامي للعراق، والذي كان حينها بلداً حضارياً عريقاً، بل أعرق حضارة في العالم. والمفارقة أن عرب العراق الأصليين حاربوا عرب الجزيرة الفاتحين بشراسة، فقد كان التغالبة نصارى وجزءاً من الدولة الرومانية، وكان المناذرة اللخميون نصارى أيضاً وجزءاً من الدولة الفارسية.
4- الآريون:
وهم عرقية تنتمي إلى هضبة إيران، ويعود جذورها الى آسيا الوسطى، وقد هاجرت على شكل دفعات باتجاه إيران منذ أربعة آلاف سنة، وتتألف من ثلاث قوميات: القومية الفارسية، والقومية الميدية (أجداد الكرد)، والقومية الفرثية (أجداد البلوش). وقد استوطنت كثير من القبائل الفارسية والميدية (الكردية) في شرق دجلة، من شماله الى وسطه (داخل الجغرافيا العراقية الحالية)، منذ ما يقرب من ثلاثة آلاف سنة، أي أنهم ليسوا جزءاً من عراق بين النهرين وحضارته، بل عراق شرق دجلة، أي خارج خارج حدود بلاد بين النهرين، وعلى النحو التالي:
أ- الفرس:
استوطن الفرس الآريون بعد هجرتهم من آسيا الوسطى، وسط إيران وجنوبها ابتداءً، وأسسوا الإمبراطورية الفارسية، وعاصمتها پرسپوليس (شيراز الحالية في إيران). ثم نزح قسم من القبائل الفارسية على دفعات عديدة، منذ (3000) سنة تقريباً، باتجاه غرب إيران، وصولاً الى شرق نهر دجلة، واستوطنت أراضيها الخالية من السكان، والتي تقع حالياً ضمن أراضي العراق، وتحديداً في محافظتي واسط وديالى؛ حيث كان الفرس مجاورين للشعوب العيلامية (أجداد الفيليين) والميدية (أجداد الكرد) والكاشية في شرق دجلة، من جنوبه الى شماله. وبالتالي؛ فالفرس والأكراد واللر (الفيليون) الذين استوطنوا هذه المناطق، لم يكونوا محتلين لها، ولم يسلبوها من شعب آخر.
أما الدولة الفارسية الأخمينية التي احتلت بابل؛ فإن احتلالها كان يقتصر على أراضي الدولة البابلية وصولاً الى صحراء الأنبار، التي تحولت آنذاك الى أكبر ثكنة عسكرية فارسية، ومنها انطلقت الغزوات الفارسية نحو الشام وشمال أفريقيا وأوروبا. أما باقي الأراضي التي أصبحت فيما بعد تضم عاصمة الإمبراطورية الفارسية الساسانية طيسفون (100 كم عن العاصمة بابل)، وصولاً الى الحدود الإيرانية العراقية الشرقية الحالية؛ فهي أراضي كانت خارج بلاد ما بين النهرين. وبالتالي؛ فالظاهرة التي تعرّض لها أحفاد البابليين والسومريين المنقرضين، تعرض لها أيضاً أحفاد الفرس المنقرضين في شرق دجلة، والذين خضعوا أيضاً لعمليات التعريب والاستعراب؛ لأنهم أسلموا وبقوا في أراضيهم، ولم يهاجروا الى أراضي إيران الحالية.
ب- الكرد:
الأكراد أو الكرد هم فرع من القومية الميدية الآرية المهاجرة من آسيا الوسطى. وقد استوطن الميديون شمال وغرب إيران، وأسسوا ــ فيما بعد ــ الإمبراطورية الميدية وعاصمتها هگمتانه (همدان الحالية في إيران)، ونزحت بعض القبائل الميدية في الفترة نفسها تقريباً، وهي التي عرفت بالكُرد، باتجاه شمال غرب إيران، واستوطنت أراضيها، ومنها نزحت الى شمال شرق العراق الحالي، وتحديداً أراضي محافظة السليمانية الحالية، أي أن الكرد الميديين هم سكان الجبال غالباً، على عكس القبائل الميدية الأخرى التي سكنت السهول الإيرانية وجاوروا بحر الخزر (قزوين) وبحيرة أُرومية، ومنهم الآذريين (الآذربيجانيين) والگيلكيين (سكان گيلان شمال إيران). وبالتالي؛ لم يكن الكرد محتلين للأراضي التي استوطنوها في شمال غرب إيران وشمال شرق العراق؛ فهي أراضيهم أساساً منذ ثلاثة آلاف السنين، وكانوا فيها يجاورون أشقاءهم من القوميات الميدية الآرية الأُخر، إضافة الى مجاورة أراضي الإمبراطورية الآشوريين أو الخضوع لسلطتها أحياناً.
أما نفوذ القبائل الكردية إلى باقي أراضي شمال العراق الحالية؛ فقد جرى على شكل موجات نزوح جماعي خلال قرون طويلة، أي منذ 2,500 سنة، وإلى ما قبل قرن من الزمان.
5- الطورانيون:
وهي العرقية التي ينتمي إليها الأتراك أو الترك، الذين تعود أصولهم الى منطقة تركستان غرب الصين، حيث نزحوا منها على شكل هجرات كبيرة متباعدة زمنياً، منذ حوالي ثلاثة آلاف سنة، واستوطنوا آسيا الوسطى وجنوب روسيا، ثم نزحوا بعد الفتح الإسلامي باتجاه إيران وتركيا الحالية والعراق. وينقسم الأتراك في العراق الى عدد من المكونات القبلية، أهمها التركمان وأتراك الأناضول:
أ- التركمان:
التركمان، من الشعوب التركية الأوغوزية التي استوطنت شمال العراق مع الغزوات السلجوقية والعثمانية، وأهمها ما بعد العامين 1055 م و1534 م.
ب- أتراك الأناضول:
أتراك الأناضول هم آخر من هاجر الى العراق في فترات زمنية متباعدة، بدأت بعد تأسيس الدولة العثمانية، وقد اختلط فيها أبناء القوميات العثمانية الأخر، كالشركس والألبانيين والداغستانيين والشيشان، وكانت أغلبيتهم الساحقة ضمن جيوش الاحتلال التركي العثماني أو مهاجرة معها.
وهناك مكونات عراقية أُخرى، كالصابئة والإيزديين والشبك والزرادشتيين، لكنهم ليسوا قوميات؛ فالصابئة في جنوب شرق العراق هم أتباع ديانة، وتعود أصولهم الى السومريين والعيلاميين والكلدان والعرب غالباً، وهكذا بالنسبة للإيزديين في شمال العراق؛ فهم أيضاً ديانة وليسوا قومية؛ إذ فيهم عرب وفرس وكرد، وكذلك الزرداشتيين في شمال العراق؛ فهم خليط من الفرس والكرد. أما شعب الشبك في محافظة نينوى؛ فهم خليط مندمج من الفرس والآذريين والكرد والتركمان، برغم استقلالية لغتهم، والتي هي أيضاً خليط لغوي من القوميات الأربع المندمجة المذكورة.
ونؤكد بأن تقسيم العرقيات هنا الى سومرية وعيلامية وآرية وسامية وطورانية، كما هو الحال مع العرقيات القوقازية والسلافية، هو تقسيم مفترض، يضطر إليه جميع الباحثين، بغرض التمييز بين الشعوب والناطقين باللغات المختلفة، وهي تقسيمات وتسميات أسس لها علماء التاريخ والأنثرولوجيا الأوربيون خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلادييين، وأبرزهم المؤرخ الألماني “أوغست لودفيغ شلوتسر”، بناء على الموروث التوراتي اليهودي، ثم طوّره المفكرون النازيون الألمان، وإلّا فإن التقسيمات العرقية المذكورة لا تشكل حقيقة علمية ثابتة.
الرابطة العربية: حاضنة القوميات العراقية
العربية (Arabism) التي نقصدها هنا ليست القومية العربية ولا الآيديولوجية القومية العربية ولا العروبة، ولا اللغة العربية لوحدها؛ بل نقصد بها الرابطة التي تضم الناطقين بالعربية وحاملي ثقافتها، سواء كانوا عرباً بالأصل النَسَبي والدم، وهم القحطانيون والعدنانيون وفق الموروث النسَبي العربي، أو غير عرب نَسَبياً، لكنهم استعربوا نتيجة ذوبانهم بالقبائل العربية المهاجرة من اليمن والجزيرة والشام، أو بالفاتحين العرب بعد الإسلام.
وإذا كان عدد سكان البلدان العربية الـ (22) يصل إلى (430) مليون نسمة؛ فإنّ المنتسبين إلى الرابطة العربية من بينهم، ربما يبلغ (330) مليون نسمة، في حين أن عدد العرب الأقحاح، أي عرب الدم والنسب؛ ربما لا يصل الى (100) مليون نسمة، وما تبقّى هم مستعربون خلال الـ (1400) سنة الماضية، وفيهم السومريون والآراميون والنبط والعموريون والسريان والكنعانيون والكاشيون والفرس والفيليون والهنود والكرد والترك والآذريون والأرمن واليهود والفينقيون والأقباط والنوبيون والأمازيغ واليونانيون والرومانيون. وهو ما يشابه تحول كثير من العرب الأقحاح الى فرس وأتراك وأكراد وأمازيغ وهنود وإندونيسيين وإسبانيين وبرتغاليين.
والحديث عن العرق الخالص أو القومية الخالصة هو حديث خرافة ووهم، وخاصة بالنسبة للقوميات والشعوب الفاعلة في المشهد الإنساني، والتي تميزت تاريخياً بالهجرة والنزوح والفتوحات والغزو الخارجي؛ كالرومان والفرس والأتراك والعرب؛ فهي أكثر الشعوب التي اختلطت بالشعوب الأخرى اختلاطاً كبيراً. ولعل من المفيد الاطلاع عن الدراسات الجينالوجية الحديثة؛ فهي تعطي مؤشرات على هذه التحولات الديمغرافية العميقة في المناطق التي فتحها العرب المسلمون؛ إذ تشير بعض الدراسات الجينالوجية ــ مثلاً ــ بأن نسبة العرب الأقحاح في العراق تبلغ 24 بالمائة، وفي مصر 17 بالمائة، وفي الجزائر 10 المائة، بينما يصل عدد العرب الأقحاح المتفرِّسين (الذي أصبحوا فرساً) في إيران ما يقرب من 40 بالمائة من عدد سكان إيران.
وبالتالي؛ فالحديث عن (العربية) أو الرابطة العربية الجامعة هو أكثر جدوى من الحديث عن القومية العربية والآيديولوجيا القومية العربية؛ إذ لا يمكن إثبات النسب القومي والعرقي للفرد والأُسرة والجماعة النَسَبية إلّا عبر التحليل الجيني الذكوري، وهو ما ظل يتسبب في إحراج كثير من العنصريين الذين ثبت عدم انتمائهم الى القومية التي كانوا يتعصبون لها ويعتدون على الآخرين من منطلق تطرفهم في الانتماء لقوميتهم المزعومة، والتي ثبت بعد التحليل إنهم لا ينتمون إليها.
وكما ينتمي العراقيون من سكان جنوب العراق ووسطه الى الرابطة العربية نسباً أو لغةً وثقافة؛ فإنهم ينتمون أيضاً الى رابطة مدرسة آل البيت، ويذوبون فيها، لأسباب كثيرة، فصّلناها في كتب أُخرى، لتتحول الأكثرية المذهبية في العراق الى أكثرية مسلمة شيعية، ولتكون هذه الهوية المذهبية ركيزة الاستقرار الوطني الثانية؛ بالمعيار نفسه الذي يحكم الركيزة الأولى (الرابطة العربية)، بعيداً عن أي تمييز وأقصاء وتهميش لأية قومية ودين ومذهب آخر.
والملفت؛ أن يتسبب التطور التاريخي في تركيز معادلة (شيعة عرب) في وسط العراق وجنوبه؛ أي في مساحة الحواضر العراقية العالمية التاريخية الكبرى؛ وتحديداً بابل وسومر وأكد، والتي تُختصر في حضارة وادي الرافدين أو بين النهرين، والتي قدمت للبشرية الكثير جداً من العلوم والفنون والنظريات والأساطير والقوانين والحكمة والفلسفة.