كَذا هيَ الحياة، فتواصَوا بالحقّ..!
كوثر العزاوي ||
كلُّ شيئٍ في هذا الزمان مجبول على الضدّ، على الدَّمعة والبسمة، على المحبة والبغض، على الذّكريَات الجميلة والمفاجآت الصادمة، على الثبات والتزلزل، على اللقاء والفراق، على الإنتصار والإخفاق،! وهكذا حتى ندرك أن لا شيئ يُوحِي بأنَّ هذا الوجود هو جَنَّة من طُمُوحات وآمال وحسب، ولاوافر من رفاهية واسقرار أبدًا، ﴿إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾غافر٣٩
وهذا ظنّ العقلاء﴿الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ۚ﴾ النساء٧٤
وإنّ حالهم كالغُرباء في أوطانهم، كلٌّ يقف على قارعة طريق وقد أُثقِلَ بمختلف الآهات وأُثخنَ بالجراحات، يُبصِرُ المخلوقات فيرى الجمال الآسر في مظاهر الطبيعة الخلابة، فما يلبث حتى تلحظ عيناه المروج الخضراء، وطوائف من البهائم ومختلف الأنعام وكل مادبّ على الأرض يرتع مسبّحًا بحمد ربه ولكن لاتفقهون تسبيحهم، وثمة كثير من معاشر بني الأنسان تقطن كلّ بقعة من أرض الله باخْتِلاف أَلْسنَتِهمْ وأَلْوانِهمْ وميولهِم وقناعاتهم وغاياتهم، إنه عالَم الدنيا، لم يفتأ يجري متقلّبًا بأمر الخالق”جلّ وعلا”
{كلٌّ يَجْرِي إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى..} فما تراه بالأمس قد لاتراه اليوم، وماسمعتهُ من قبل، يناقضُ فعل اليوم، فضلًا عن قلبِ القيم إلى مفاهيمَ لاتنسجم مع مُتبنَّيات القصد الى الكمال والسموّ، حقّا عالَم مخيف لولا لطف الله! فإسداء المعروف أصبح تدخّلًا، والحرص تطفّلًا، والإحسان تملّقًا، والتلَطُّف حُمْق، والصمت عار، والحقّ تبعيّة، والإتّباع تذييل، والتأمل ضعف، وهكذا تبدو الحياة صراع بلا هوادة، كل يومٍ يموت فيها جزءٌ من البرّ، ويخبو كثير من وهج الفضل، فالحال تتردى ولا ارتقاء في البين إلّا مارحِم ربي، ﴿وكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾! وعندما عزَّ الثبات، وتزعزعت الثوابت، صار الصمت دليلًا على الحكمة و”طوبَى لِمَنْ كَانَ صَمْتُهُ فِكْراً وَنَظَرُهُ عِبراً”
كما نحن أيضا نتغيَّر لدرجة الصمت والإعتزال، لأننا نُصدَم ونفشل، نَفقِد ونُكْسَر، تخوننا الظنون وتخيب فينا الآمال، نتغيَّر لأنَّ الحقيقة لا تُفصِح عن نفسها دفعةً واحدة، بل تُمهِلنا وقتًا ثمّ تتكشَّف تدريجيِّا عِبر مراحل مُستقطَعة، حتى تكاد تفتِك بالروح التي تمنح الحبّ ولاترجو غيره، تلتمسُ العطاء بلا مِنّة، وكم من نعمة أنكَرَها أهلها جحودًا أو إعراضًا، مايؤكد أنَّ ما بين إنسان الأمس وإنسان اليوم وجَعًا طويلًا، وخسارات متباينة، وكمائنَ من دهر لايُشفِق! غير أنّ مايثير الرضا في النفس ويبعث على الغبطة هو: إنّ كل تلك الهواجس والقلاقل إنما هي جزءٌ مِن مُركَّبات “تجربة الإنسان” سيما عند احتدام الغربال وشدة المراقبة، وذلك الذي يصنع منه إنسانًا مقاوِمًا، وأنّ الأشياء بأسبابها.
والأرزاق بمسمّياتها، وتبقى الغايات العليا هي القوة الروحية والمعنوية التي تجذب الإنسان للمزيد من الرسوخ والثبات، والتمسك بما عند الله “عزوجل” دون انحرافٍ أو تبديل، وتجنب كل مايجرّ إلى ضياع البوصلة والابتعاد عن جادة الهدى.
{وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}
٢٢-ذوالقعدة-١٤٤٥هجري
٣١-أيار-٢٠٢٤م