فسادين كبيرين لبني إسرائيل..!
الشيخ حسن عطوان ||
[ كتبت في بدايات معركة ( غزّة ) الحالية المقالة التالية ، أُعيد نشرها الآن بحسب طلب بعض الأخوة ، مع إضافةٍ أقتضتها بعض المستجدات : ]
قال عزَّ من قائل في كتابه المجيد :
( وَ قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً * فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَ كانَ وَعْداً مَفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَ أَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ جَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَ لِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ لِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً ) [ الإسراء : 4 – 7 ]
🖊️ تتحدث هذه الآيات المباركات عن فسادين كبيرين لبني إسرائيل ، يصلون فيهما الحد بالطغيان والعلو ، وعقب كل فساد من هذين الفسادين يسلط الله عليهم رجالاً أشدّاءً يذيقونهم الويل جزاء فسادهم و طغيانهم .
🖊️ وتوجد عدة نظريات في المراد من الفسادين اللذين تشير لهما الآيات الكريمة ، وأهمها ثلاث نظريات :
◀️ الأولى :
تقول إنَّ بني إسرائيل تعرضوا في تاريخهم الى إذلالين مهمين :
كان الأول هو ما قام به ملك بابل ( نبوخذ نصر ) من هجوم على بيت المقدس وتخريبه وأخذهم سبايا الى بابل .
وكان الثّاني هو ما حصل عندما أمر قيصر الروم ( أسييانوس ) وزيره بتخريب بيت المقدس ، وقُتل اليهود فيه مقتلة عظيمة .
ويحتمل أنْ تكون هاتان الحادثتان هما اللتان أشارت لهما الآيات المتقدمة .
🖊️ ويرد على هذه النظرية :
إنَّ ظاهر قوله : ( فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَ لِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ لِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً ) ، هو الإخبار عن واقعة ستقع مستقبلاً .
◀️ النظرية الثانية :
إنَّ الآيات الكريمة لا تتحدث عن حادثتين وقعتا في الماضي ، بل كلا الفسادين الكبيرين حصلا بعد أنْ أعانت قوى الإستكبار في العصر الحديث – بريطانيا ومن ثم أميركا – اليهود الصهاينة في بناء كيان سياسي لهم في فلسطين بعد الحرب العالمية الثّانية :
فتأسيس كيان لليهود بإسم ( إسرائيل ) في قلب العالم الإسلامي يعتبر الفساد والطغيان الأوّل لهم .
وتمثّل الرد على ذلك بتنبّه الشعوب الإسلامية الى هذا الخطر الداهم عام ( 1948 م ) ونهضتها إلی التوحدّ وتطهير بيت المقدس وأجزاء آخرى من مدن فلسطين ، حتی أصبح المسجد الأقصی خارج نطاق احتلالهم بشكل كامل .
أمّا الفساد الثّاني بحسب هذه النظرية ، فتمثّل باحتلال اليهود مجدداً للمسجد الأقصی بعد أن حشدت ( إسرائيل ) قواها وأعانتها قوى الإستكبار في شن هجومها الغادر في عام ( 1967 م ) .
🖊️ ولكن يرد على هذه النظرية :
أولاً : إنَّ ظاهر قوله تعالى : ( ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَ أَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ جَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً ) إنَّ الفساد الأوّل لهم و الإنتقام الأول منهم كان قد وقع في الماضي .
وثانياً : إنَّ ما قام به العرب في حرب عام ( 1948 م ) لم يكن بمستوى ما عبّرت عنه الآية الكريمة : ( فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ ) .
◀️ النظرية الثالثة ، حاصلها :
إنَّ فساد اليهود الأول الخطير كان في زمن رسول الله محمد ( صلى الله عليه وآله وسلّم ) ، فبعد أنْ عاملهم بكل لطف وإحسان خانوا العهود وتأمروا عليه بكل خسّة .
وكان الرد على هذا الفساد بل الإفساد هو إخراجهم من المدينة المنورة ، بعد معركة قادها رجل كرّار غير فرّار ، هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه أفضل الصلاة والسلام ) .
🖊️ لكن هذه النظرية تحتاج الى تتميم وهو أنْ نحمل الفعل الماضي ( بعثنا ، رددنا ) علی معنی الفعل المضارع ، إذ إنَّ سورة الإسراء في غالب آياتها هي سورة مكية نزلت قبل إجلاء اليهود ، وهذا الحمل ممكن في اللغة العربية إذا جاء الفعل الماضي بعد حرف من حروف الشرط ، وهو كذلك في الآيات الكريمة .
ثم وفق هذه النظرية : إنَّ اليهود عادوا في العصر الحديث إلی الإفساد بهيئة كيان لقيط مكنتّه قوى الإستكبار وخنوع وخيانة العرب ، إفساد أذاق الفلسطينيين أهل الأرض عذابات وويلات لم ترها أمّة من الأمم في العصر الحديث .
وعلى هذا يكون المسلمون في انتظار النصر الثّاني علی بني إسرائيل ، ليخلّصوا المسجد الأقصی من دنس هؤلاء و يقطعوا دابرهم عن كل الأرض الإسلامية .
وتقول هذه النظرية : إنَّ الله سيسلّط عليهم مَن يسومهم سوء العذاب ، في نصرٍ حاسم نهائي أبدي ، تصديقاً لوعده الذي لا يتخلف ، وهو الأمر الذي ننتظر أنْ يكون على يد حفيد عليٍ – إنْ شاء الله – إمام العصر والزمان ( عجل الله تعالى فرجه الشريف ) .
يقول جلَّ وعلا : ( وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ) [ القصص : ] .
ويقول عزّ إسمُه :
( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) [ التوبة : 33 ] .
🖊️ وأمّا وقائع هذه الأيام وما حققه الفلسطينيون من مواقف يُفتخَر بها ، ومع أنّها أيضاً بدعم مهم بالسلاح والخبرة وأمور أخرى من شيعة قائد النصر الأول على اليهود ، ولكنّي لا أقرأ فيها أكثر ممّا تفيده الآية الكريمة :
( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ ) [ الحج : 39 – 40 ]
فهذه الآية الكريمة : مع أنّها نزلت في الإذن بالجهاد للمسلمين ، بعد أنْ كان الرسول الأكرم ينتظر إذن السماء بذلك .
لكن تطبيقها الحالي مفاده :
إنَّ الله تعالی أذن لمَن يُعتدى عليهم ، لا سيّما من ( الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ ) أنْ يقاتلوا ذلك المعتدي لدفع ظلمه وعدوانه .
وإنَّ الله سبحانه على نصر أولئك المظلومين لقدير .
ووعد الله بالنصر جاء مقروناً ب ( قدرة الله ) ، و هذا قد يكون إشارة إلی أنَّ القدرة الإلهيّة إنّما تنجد الناس حينما ينهضون بأنفسهم للدفاع عن حقّهم ، لا أنْ يجلسوا في بيوتهم بأمل مساعدة اللّه تعالی لهم في ذلك .
فالآية الكريمة تريد أنْ تقول :
عندما تستحقّون النصر بجدّكم وإخلاصكم ينجدكم الله و ينصركم .
ما أريد أنْ أقوله :
إنَّ كل ما نراه الإن ليس إلّا مقدمة لذلك النصر النهائي الذي سيتحقق إنْ شاء الله على يد الإمام ( عجّل الله لنا الفرج بقيامه المبارك ) ، ولعل ما يحدث الآن إنّما يحدث في هذا الوقت بالذات ، ليعيد للمؤمنين الأمل بعد هنّات وهنّات ، وليقول لنا : إنَّ ما رسمه الإعلام المستكبر لقوة العدو التي لا تُقْهر ، ما هو إلّا وهم في وهم .
ومَن كان مع الله كان الله معه ..
ومَن كان الله معه ، فهو القوة الذي لا تُقْهَر .
ولكن !!
أضيف الآن شيئاً :
إنَّ القول بأنَّ غزّة أمتداد لكربلاء فيه مخاطرة كبيرة ، إذ لعله سيؤدي ولو بعد حين الى التشكيك بدقة توصيفاتنا !
فالجمهور العام سوف لن يحفظ عنّا الشروط والمحددات التي يطرحها بعضنا الآن .
هذا الجمهور سوف لن يحفظ إلّا مقولة :
” إنَّ ما يحصل في غزّة هو إمتداد لكربلاء ! ”
وسوف يعاتبنا عتاباً مرّاً حينما يجد الفلسطينيين ومعهم الأردنيين وآخرين هم رأس الحربة ضدنا في أول حرب قادمة مع أعدائنا ، ونسأل الله سبحانه ألّا تكون .
وقد فعلوها في سوريا حينما خاضوا في معارك معنا خاصة ، واستعملوا فيها المعدات التي كنّا قد أوصلناها لهم من قبل !!
وبالنسبة لي أظن أنّهم ومَن على شاكلهم سيكونون قوام جيش السفياني !
لكنّي أعود لأوكد :
أنّهم ” مظلومون ” .
وإعانتهم والقتال معهم ؛ أولاً لأنّهم مظلومون ، وثانياً لأنّه دفاع عن أرض إسلامية أمام عدو وجودي غاشم ، لا يُفرّق بين مسلم وآخر ، بل هو يستهدفنا في المقام الأول .
وليكن ذلك بقدر الممكن ، وبحيث لا يؤدي الى المجازفة بالمؤمنين وبمراكز قوتهم وعزّتهم .
🖊️ ونصيحتي للأخوة المجاهدين في الفصائل في العراق : لست ضد وقوفكم المبدئي مع المظلوم ، ولكن لا يصح الدخول في معركة لم تهيأوا لها عدتها ولوازمها .
لا سيّما وأنتم مكشوفوا الجناح تماماً أمام عدو متغطرس ، أعني أميركا واسرائيل ، وبوجود عملاء وجُهال يتربصون بنا الدرائر ، فتأملوا .
نعم ، الله معنا إنْ شاءت إرادته ، لكنّه هو الذي يأمر بذلك ، إذ يقول :
( وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ) .
وايضاً إذا أردتم الدخول في هذه المعركة فلا تدخلوها بعنوان أنّها الطف الثانية !
فهو عنوان تعبوي كبير لندخره لأيام معركتنا الكبرى ، وهي آتية .
والله من وراء القصد .
عظّم الله أجوركم .
[ حسن عطوان ]
13 / محرم الحرام / 1446 هج .