الحوار الأخير للشهيد..!
متابعة ـ الواح طينية
النص الكامل لآخر كلمة أو مُداخلة للشهيد المجاهد إسماعيل هنيّة، في (منتدى الحوار الستراتيجي)، الذي يديره الصحفي ناصر قنديل، والذي عـُقد ألكترونياً بتاريخ 23 حزيران 2024. بمشاركة كل من: السيد إسماعيل هنيّة، السيد د.عادل عبد المهدي، السيد د.زياد الحافظ، الأستاذ معن بشور، والاستاذ علي بن مسعود المعشني:
بسم الله الرحمن الرحيم، في البداية أوجه التحيّة الى مبادرة تأسيس منتدى التفكير الستراتيجي الجامع لنخب تلتقي على أولوية فلسطين في جدول أعمال الأمّة، ومكانة القمّة في خطوات نهوضها. وتحية للأخ العزيز الاستاذ ناصر قنديل على هذه المبادرة، وتحيّة لكل المشاركين في هذه الندوة الجامعة. وأعبّر عن سعادتي لوجود هذه القامات الفكرية والسياسية من نخب الأمّة على اختلاف تموضعاتها، والملتقية على خط المقاومة وقضية فلسطين، باعتباره محور الصراع مع المشروع الصهيوني الأميركي في المنطقة.
كذلك أعبر عن تقديري لمشاركة دولة الرئيس الأستاذ عادل عبد المهدي، وأحييه وأحيّ العراق. وقد استمعت الى كلمته (في افتتاح المنتدى في 11/5/2024) وما رسّخته من قواعد وأصول يمكن أن تشكل ناظماً لفكر النخبة في اتجاهات العمل المتعلقة بمشروع التحرير ومشروع العودة والنهضة، ومواجهة محاولات بناء مشاريع أقليمية خارجة عن منظومة تاريخ هذه المنطقة، وجغرافيتها وتاريخ شعوبها.
المقاومة في فلسطين، تميّزت بثلاثية: الأولى، هي الاستناد الى العقيدة الثابتة والراسخة. والثانية، هي التخطيط وبناء القوة والاقتدار واستمرار الإعداد واستراتيجية تراكم القوّة. والثالثة، هي التحالفات الاستراتيجية التي بنتها المقاومة الفلسطينية مع مكونات الامّة كافة، وفي القلب منها الدول المتحركة في إطار محور وجبهات المقاومة.
ولا يخفى حاجتنا الآنية الى “عقل ستراتيجي”، وربما يتوافر الآن تفكير ستراتيجي، إلّا انه تفكير موزّع ومتناثر، وهو بحاجة الى عقل، وهو العقل الاستراتيجي للمقاومة، والذي يمكن أن يبني الخطط والرؤى، وطبيعة الأهداف المرحلية.
وإني أرى في هذا المنتدى ما يمكن أن يشكل نواة لبناء العقل الاستراتيجي لمشروع المقاومة والتفكير، وأن ينفتح على أوسع العقول المتوفرة، إضافة الى هذه القامات التي شكلت البدايات وفازت بفضل السبق في بناء هذا المنتدى.
أما بناء منظومات التحالفات (وهي الضلع الثالث من مثلث المقاومة)، وفي القلب منها دول وقوى محور المقاومة، فقد تجلّى ذلك بكل وضوح في “طوفان الأقصى” حيث ترسّخت وحدة الساحات وتكامل الجبهات.
وقد تحدثنا كثيراً عن وحدة الساحات، وربما قلل البعض من أهمية هذا التنظير، وربما لم يكن مقتنعاً بالأصل بوجود جبهات المقاومة. لكن “طوفان الأقصى”، أفرز هذا الكنز المخبوء، الذي عمل وفق إستراتيجية الإعداد والإمداد والتركيز على المعارك والحروب في كل جبهة على حدة، ولكن في القلب منها كانت فلسطين حاضرة.
أما حركة الجبهات بهذا المستوى والتحدي، في وقت واحد وضمن تكاملية تشبه من يعزف على آلات (لا أقول موسيقية)، إنما آلات مُعمّدة بالدم وبالشهداء في غزّة والضفة والعراق ولبنان واليمن، وفي حاضنة هذا المحور إيران، وفي كل مكونات هذه الأمّة، فإنه يدرك ما معنى التحالفات الاستراتيجية. وفي الحقيقة نحن نتحرّك في عالم قائم على التحالفات. ولدينا تجارب قريبة وبعيدة لدول وقوى ومكونات، التي لم يكن لها حلفاء إقليميين أو دوليين نراها اندثرت وتم القضاء عليها. وبالعكس، نجد دولاً وقوى حين تحركت مستندة الى عمق إستراتيجي وتحالفات، نجدها حاضرة وقوية وباقية ومبادرة، بل هي التي صارت تفرض المعادلات.
أمّا عن المرحلة التي بلغها الصراع ورؤية المقاومة لفلسطين وقضيتها وموقعها ودورها، فيهمني ان أؤكد على ما يلي:
• إن “طوفان الأقصى” كان إيذانا برسم معادلات جديدة للمنطقة وللقضية بشكل جديد. وهنا نجد الكثير من التفاصيل.
• ربط الهدوء في جبهات المقاومة في لبنان واليمن والعراق، كما أوضح سماحة السيد حسن نصر الله، هو تكريس لواقع جديد في مسار الصراع مع الكيان الصهيوني، لم يكن متوافرًا على مدى سنوات الصراع.
هذا الأمر في غاية الأهمية. إن هذه الجبهات والمحور الذي تحرّك على وقع إستراتيجية الاسناد من قلب وحدة المعركة، ورَبطَ أي تغيير في هذه الجبهات أو العودة الى الهدوء بوقف الحرب الإجرامية وحرب الإبادة على قطاع غزّة. هذا الأمر لم يكن موجودًا سابقًا. على مدار سنوات الصراع، كانت تتحرك المقاومة في فلسطين، وهي مسنودة بجبهات ساخنة وملتهبة، وتجاوزت حد الاسناد الشعبي الجماهيري والإعلامي والحقوقي. على أهمية كل هذه المجالات، لتدخل الى الاسناد العسكري، الذي يشكل ضغطًا مباشرًا على الكيان وعلى حليفته الولايات المتحدة، كما يجري في البحر الأحمر.
• النقطة الثالثة، تبيّن تعدد النتائج الإستراتيجية لـ”طوفان الأقصى”، ولكن أركز على ثلاث منها:-
النتيجة الأولى: أنها أعادت القضية الفلسطينية لمكانتها، كي تحتل من جديد الأجندات الإقليمية والدولية. ولا يَخفى عليكم أن القضية الفلسطينية قبل “طوفان الأقصى”، جرى تهميشها دوليًا. وتم التعامل معها من قبل الدول الكبرى، وبعض الدول الإقليمية على أنها شأن داخلي إسرائيلي، ومتروك للحكومة الاسرائيلية المتطرفة أن تحدد فيه المستقبل والمصير. لقد انقلب هذا الأمر رأسًا على عقب، واصبحت قضية فلسطين اليوم على رأس التداول العالمي، وعلى كل المستويات.
والنتيجة الثانية: أن هزيمة الكيان الصهيوني ممكنة وحقيقة وليست خيالًا. لقد عشنا ردحًا من الزمن تحت وقع ثقافة التخويف من إمكانيات هذا الكيان، باعتبار أن الذاكرة والعقل الجمعي العربي كان يتعامل مع محطّات ومعارك وحروب، نال فيها الكيان الإسرائيلي إنتصارًا بصرف النظر عن حجمه وإسبابه وتداعياته. لكن هذه الثقافة، في إطار معركة الوعي الذي أفرزه “طوفان الأقصى”، قالت كلمتها بأن هذه حقيقة وليست مجرّد خيال، أن هزيمة إسرائيل ممكن أن تكون قريبة، وقريبة جدًا.
والنتيجة الثالثة: أنه قد أعاد توحيد الأمّة حول فلسطين، لقد كنّا في العشرية الماضية نعاني من إصابة هذا المعنى بشكل مباشر، بسبب ما طرأ على المنطقة من تحوّلات. فتراجعت وحدة الأمّة بشأن القضية. نجد اليوم الأمة بكل مكوناتها ومذاهبها وطوائفها واتجاهاتها وجغرافيتها وآيدولوجياتها، تتوحد مجددًا، وصار شعار القدس تجمعنا وفلسطين توحدنا، صار حقيقة، وواقعًا نعيشه في كل لحظة.
يبقى لدّي نقطتان:
– الأولى، إنّي أرى في هذا المستوى من الخبراء والشخوص والمفكّرين الملتقين على هذه المائدة الممتدة، يمكن أن نستحضر العديد من المشاريع الكبرى للعمل عليها، واسمحوا لي أن اضع بين أيديكم ثلاثة مشاريع للعمل:
المشروع الأول: (إستمرار تفكيك المشروع الصهيوني في حاضنته الدولية). ويجب أن نضع تصوّرات وخطط ورؤى لاستثمار التحوّلات الهائلة في الرأي العام العالمي، والغربي على وجه الخصوص، وداخل الولايات المتحدة الأميركية. ورأينا كيف كانت إنتفاضة الجامعات في أوروبا وأميركا. ورفع اليساريون في الدول الكبرى التي تحتضنهم شعار (يا عمّال العالم اتحدوا)، وقد كان شعارًا موازيًا لمرحلته وضمن أولوية الصراعات الدائرة في ذلك الوقت.
اليوم من المُمكن رفع شعار (ياطلّاب العالم إتحدوا)، في مواجهة السردية الإسرائيلية الصهيونية، ومن أجل دعم الشعب الفلسطيني وقضيته. وهذا هو أول مشروع أضعه بين أيديكم، كيف نضع تصورات ورؤى في استمرار تفكيك المشروع الصهيوني في حاضنته الدولية.
المشروع الثاني: هو (كيف نعمل على تعميق الصراع داخل الكيان الصهيوني نفسه)، وهذه إحدى تجليات هذه المعركة. صحيح إننا نقرأ في كتاب الله، قوله سبحانه: “تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون”(الحشر 14)، وهي آية قرآنية تتلى، إلّا أن جوهرها اتضح خلال هذا الصراع، والتصدع الذي نراه. وأنتم تشاهدون وتتابعون ما يجري بين المؤسسة الأمنية والعسكرية والسياسية وأهالي الأسرى في إسرائيل، فهناك تفكك كبير. وحالة من الفوضى يعيشها هذا الكيان. وهذا ستكون له تداعياته الى اليوم التالي للحرب، ولن تكون مجرد ظاهرة عابرة لما يعيشه هذا الكيان من تصدّعات. وستصاحبه حتى الزوال. وكما قال الأستاذ المسيري: بأن الكيانات الإستيطانية الإستعمارية الاحلالية، فإن هزيمتها تبدأ من داخلها بالأساس. حينما تبدأ تصدعاتها الداخلية. وهو أمر غير ما يحدث في الاحتلال العابر الذي قد يمضي. أما الإحلال الاستيطاني فسيبدأ التصدع من داخله.
أما المشروع الثالث: فهو (تكريس شرعية المقاومة في كل الهيئات والمؤسسات الإقليمية والدولية)، من أجل مواجهة محاولات وصف المقاومة بأنها (إرهاب). واليوم لا تشكل المقاومة عاملًا ثانويًا، لا في المشهد الفلسطيني ولا في المنطقة. بل هي أصبحت العامل الأهم الذي نتعامل معه ويواجهه الجميع. فالسؤال هو: كيف تكرّس النخبة شرعية المقاومة، ليس فقط في حاضنتها، إنما فيما هو أبعد من ذلك. وان نخوض صراع إرادات ومشاريع بالمعنى الثقافي والفكري لتعزيز هذه الشرعية، باعتبارها العامل المؤثر على المستوى الدولي.
هذه المشاريع الثلاثة التي أضعها بين أيديكم للدراسة والتفكير والتطوير وبما يمكن أن يضاف إليها من مشاريع ستراتيجية داعمة في قادم الأيام.
نشر النص الكامل للندوة الالكترونية في العدد الرابع من ملحق جريدة العدالة البغدادية، الصادر في 20 تموز 2024