للثورة صلح وسياسة..!
زمزم العمران ||
قال تعالى في كتابه الكريم :(وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا)
بعد إستشهاد أميرالمؤمنين (عليه السلام) ومبايعة الإمام الحسن (عليه السلام) بالخلافة، ورث تلك التركة الثقيلة المتمثلة بهذا الخليط العجيب منهم الخوارج ، وهم الخارجون على طاعة الإمام علي (عليه السلام) والذين حاربوه وناوئوه ونصبوا له العداوة ، والغوغائين الذين هم لايستندون في موقفهم إلى أساس، بل هم اتباع كلّ ناعق يميلون مع كلّ ريح ، والفئة المترجّحة التي ليس لها مسلك معين، أو مهمة خاصّة مستقلة، وإنّما هدفها ضمان السلامة، وبعض المطامع عند الجهة التي ينعقد لها النصر، فهي تترقب عن كثب إلى أيّ جهة يميل ميزان القوة لتميل معه.
كيف نظر الإمام الحسن (عليه السلام) إلى تلك الخارطة البشرية المتناقضة؟
ذكر المؤرّخون: أنّ الإمام الحسن عليه السلام بعد أن رأى خيانات جيشه والمحيطين به ونفاقهم، مع أنّه لم يبق له ثمّة أمل في ثباتهم وصمودهم في مواجهة العدو، ومع انكشاف ما تنطوي عليه تلك الضمائر من رغبات، لكنّه عليه السلام ولكي يتمّ الحجة ألقى فيهم الخطاب الآتي: “ويلكم ! والله إنّ معاوية لا يفي لأحد منكم بما ضمنه في قتلي، وإنّي أظنّ إن وضعتُ يدي في يده فأسلمه لم يتركني أدين بدين جَدّي، وإنّي اَقدِرُ أن أعبدَ الله عزوجلّ وحدي، ولكن كأنّي أنظر إلى أبنائكم واقفين على أبواب أبنائهم يستسقونهم ويطعمونهم بما جعل الله لهم فلا يسقون ولا يطعمون، فبُعداً وسحقاً لما كسبته أيديهم، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون”.
ومرّةً اُخرى، وقبل أن يقبل باقتراح معاوية للصلح قام الإمام عليه السلام بإتمام الحجّة، من خلال خطاب يتضمّن استطلاعاً لآراء أصحابه، واستخباراً لنيّاتهم، فقد قال عليه السلام بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه: “أما والله ما ثنانا عن قتال أهل الشام ذلّة ولا قلّة، ولكن كنّا نقاتلهم بالسلامة والصبر، فَشيب السلام بالعداوة، والصبر بالجزع، وكنتم تتوجَّهون معنا ودينُكم أمام دنياكم, وقد أصبحتم الآن ودنياكم أمام دينكم، وكنّا لكم وكنتم لنا، وقد صرتم اليوم علينا، ثمّ أصبحتم تصدّون قتيلَين: قتيلاً بصفّين تبكون عليهم، وقتيلاً بالنهروان تطلبون بثأرهم، فأمّا الباكي فخاذل، وأمّا الطالب فثائر” ،وبعد ذلك عرض عليهم اقتراح معاوية الصلح،فقال عليه السلام: “وإنّ معاوية قد دعا إلى أمر ليس فيه عزٌّ ولا نَصَفَةٌ، فإن أردتم الحياة قبلناه منه، وأغضضنا على القذى، وإن أردتم الموت بذلناه في ذات الله، وحاكمناه إلى الله ؟”
لم يبق أمام الإمام الحسن عليه السلام سبيلٌ غير القبول بالصلح ،وترك أمر الحكم لمعاوية فترةً من الزمن، ويتبيّن من خلال التمعّن في بنود معاهدة الصلح أنّ الإمام عليه السلام لم يقدّم أيّ امتياز لمعاوية، وأنّه عليه السلام لم يعترف به رسمياً باعتباره خليفةً وحاكماً للمسلمين، بل إنّما اعتبر الحكم القيادة حقّه الشرعي ،مثبتاً بطلان ادعاءات معاوية بهذا الصدد ،وبعث معاوية بالسجلّ المختوم للإمام الحسن (عليه السلام) ليشترط فيه ما يشاء لنفسه، وأهل بيته وشيعته، وكتب الإمام الشروط، وأخذ من معاوية العهد والميثاق على الوفاء، واعطاه معاوية ما أراد مبطنا في داخله الحنث والنكول ، وكانت نصوص الصلح هي:
1- تسليم الأمر إلى معاوية على أن يعمل بكتاب الله وبسنّة رسوله صلى الله عليه وآله وبسيرة الخلفاء الصالحين.
2- أن يكون الأمر للحسن من بعده, فإن حدث به حدث فلأخيه الحسين, وليس لمعاوية أن يعهد إلى أحد.
3- أن يترك سبّ أمير المؤمنين والقنوت عليه بالصلاة, وأن لا يذكر عليّاً إلاّ بخير.
4- استثناء ما في بيت مال الكوفة وهو خمسة آلاف ألف, فلا يشمله تسليم الأمر, وعلى معاوية أن يحمل إلى الحسن ألفي ألف درهم, وأن يُفضّل بني هاشم في العطاء والصِلات على بني عبد شمس, وأن يفرِّق في أولاد من قتل مع أمير المؤمنين يوم الجمل, وأولاد من قتل معه بصفّين ألف ألف درهم, وأن يجعل ذلك من خراج دار أبجر.
5- على أنّ الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم, وأن يؤمن الأسود والأحمر, وأن يحتمل معاوية ما يكون من هفواتهم, وأن لا يتبع أحداً بما مضى, ولا يأخذ أهل العراق بإحنة .
كلّ ذلك يكشف لنا الوجه المدني المتحضر للسياسة التي اتبعها الإمام الحسن (عليه السلام) في مقابل الوجه الآخر للسياسة بمعناها الوحشي الذي اتبعه معاوية. سواءً قبل الصلح أو بعده،فإذا كان هدف السياسة والممارسة السياسية هو (تحقيق المصلحة، أكانت فـــردية أو جماعية، وتــنميتها والــــدفاع عنها) وهو ما كان يعمل عليه الإمام الحسن (عليه السلام)، فإنّ الوجه الآخر للسياسة الذي هو (بمثابة عملية نزاعية مجرّدة من كلّ قيمة إنسانية ومن كل قاعدة اخلاقية ترعى مصالح الآخرين أو تحترم حقوقهم، أو حتى آدميتهم في بعض الحالات)، قد عمل عليه معاوية من خلال منزع تسلطي وعنفي يفضي إلى اقصاء أيّ خصم عن ميدانها بالقمع المنظم والقمع العشوائي.
هذا القمع عند تسليط الضوء عليه، يكشف عن نزعة عدوانية كامنة في نفسية معاوية.. الذي يمكن النظر لعدوانيته (إنّها سلوك مدفوع بالغضب، والكراهية، أو المنافسة الزائدة، وتتجه إلى الإيذاء والتخريب أو هزيمة الآخرين).