الخميس - 19 سبتمبر 2024
منذ 4 أسابيع
الخميس - 19 سبتمبر 2024

أمين السكافي (لبنان-صيدا) ||


من الطبيعي جدًا معرفة القارئ بالأكفان أو الكفن، ولمن لا يعرف من مشارب أخرى، هو قطعة من قماش، وعادةً بيضاء اللون، يلف بها المتوفي، شهيدًا كان أم مات ميتة عادية، شابًا أو كهلاً أو عجوزًا أو امرأة.
عند بعض المذاهب، أن الشهيد لا يكفن ولا يُغسل، بل يُدفن بالكيفية التي وُجد عليها. في غزة، حتى الكفن أصبح نادرًا لإرتفاع عدد الشهداء، فغزة محاصرة من الكيان ومن المصريين برًا وبحرًا وجوًا، فمن أين سيدخل الكفن، والأولى أن يدخل الطعام والشراب؟ فمصر جمال عبد الناصر حينها كانت شيئًا، ومع السيسي شيئًا آخر.
السيسي منع دخول كل شيء وأي شيء كرمى لعيون حليفته إسرائيل، مما تسبب بحالات وفيات كثيرة جوعًا وعطشًا، وهذا ليوفر على جارته العزيزة بعضًا من قذائف أو رصاص يفتكون بها بالغزاويين.
المضحك المبكي أن الرئيس الراحل محمد مرسي قد اختاره قائدًا للجيش لزهده وتقواه وتردده على المساجد، حسب ما نقل إلينا، وخصوصًا في فيلم “الإختيار” الذي صور السيسي بالوطني المتدين. عن أي تدين كانوا يتحدثون، والله لا أعلم.
كيف لمتدين أو إنسان أو جار أو مسلم أو مسيحي أو يملك ذرة من ضمير أن يفعل هكذا بجاره؟ يمنع عنه كل شيء: مأكلاً أو ملبسًا أو مياهًا أو أكفانًا، ولو استطاع إلى ذلك سبيلاً لمنع حتى الهواء من دخول غزة. نعم يا إخوتي، هذه مصر. مصر العروبة، مصر أم الدنيا، مصر الرائدة في موضوع الصراع العربي الإسرائيلي، وشعب مصر ضد التطبيع مع العدو، أين ذهب كل هذا؟ لا أحد يعلم.
فالمائة والعشرون مليون من البشر الذين يقطنون مصر، كلهم على قلب رجل واحد في العداء لغزة، ولأكون منصفًا قد يكون هناك خمسة أو عشرة بالمئة، ولكن أين هم؟
نحن في الشهر الحادي عشر، ولم يتحرك أحد، لا ضمير ولا إنسانية ولا إسلام، أبدًا لا شيء حرك شيئًا في المواطن المصري. هل هو العجز؟ هل هو الخوف؟ هل هي طاعة ولي الأمر، أميركيا كان أم سعوديا؟
المشكلة في المصريين أنهم يحبون الفراعنة، وعبد الناصر بالنسبة لهم كان مرحلة استثنائية، في حين يفتخر به الشرفاء من العرب وغير العرب، فإن شعبه قد نسي وأغلق الباب على تلك الحقبة. أما الحكاية المروية كحديث بأنهم خير أجناد الأرض، فبحاجة لإعادة نظر فيها وفي صحتها.
تخيلوا أعزائي أننا نتكلم عن واحد وأربعين ألف شهيد في عشرة أشهر، لذلك صارت غزة تستجدي حتى القماش للكفن. غزة، في مساحتها الصغيرة، أصبحت مقبرة جماعية، لم يعد هناك من أمكنة للدفن أو للغسل، فالماء نادر الوجود، وطبعا الكفن. أما إقامة العزاء، فمن سيقيم عزاءً من؟ فهذا ترف ما بعده ترف. حتى زيارة القبور أصبحت مستحيلة، فالغالب هو المدافن الجماعية، وإن كان لك معارف قد تستدل على أهلك وأنسبائك في أية مقبرة جماعية دفنوا.
أما الجرحى والمعاقين بسبب الحرب، فحدث ولا حرج، فلا عناية طبية، والبقاء لمن لم يأذن له الله بالموت، فلا مستشفيات ولا مستوصفات ولا شيء في غزة. أن تموت وأنت نائم بسبب مرض ما أو جلطة أصابتك أو أي عامل طبيعي يؤدي إلى الوفاة، فهذا أيضًا ترف يحسد أهله عليه.
للبيوت حكاية أخرى في غزة، فالبيوت مسحت، والفائز هو من استطاع الحصول على خيمة تحرقه في الصيف وتغرقه بللاً في الشتاء. ولكن يبقى أفضل من العراء، تفترش الأرض وتلتحف السماء.
العالم لا يعرف شيئًا عن غزة. غزة في واد، والعالم في واد آخر. الحقيقة لن تعرف حقًا إلا بعد انتهاء العدوان على غزة. عندها سيرى العالم الفظائع والمجازر والهولوكست الحقيقي في غزة، على يد أقذر بني البشر ومساعديه من العربان. قسم متواطئ، وبالأحرى حليف للكيان، وقسم لا تسمع منه إلا شعارات كفتح الحدود وسنفعل كذا وكذا. وهذا كله لا يسمن ولا يغني من جوع، بل هي مجرد شيكات بلا رصيد.
لقد حُكي في الأشهر الأولى للحرب أن دولًا عربية أرسلت أكياس جثث وأكفان، وقتها استعجبت الموضوع، ولكن اليوم أضحينا نفهم ما القصد من ذلك، فهم كانوا على علم بالكم الهائل من الشهداء الذي سيسقط في غزة هاشم.
اليوم، يا إخوتي، غزة لا تستجدي المأكل والمشرب، بل والأكفان أيضًا، كي تواري سوآت العرب الذين خذلوها وتواطؤوا عليها وأرادوا وأدها حية.