تاريخ النفوس والتاريخ المنحوس..!
علي عنبر السعدي ||
سسيولوجيا الزمن المتحول – بين علي ومعاوية
كلما حاربه اعداؤه – كثر محبوه .
في التفافة مثيرة للتساؤل ،جاءت على لسان د. علي الخطيب مفادها : حكم معاوية في الشام 40 عاماً ،20 منها والياً ،و20 خليفة ،وحكم الامام علي في العراق ، أقل من 5 سنوات ،فماذا ترك كل منهما ؟.
لم يعد أثرالرجلين ،في كلا البلدين ،يحتاج الى الكثير من الأخذ والرد ،فالإمام علي ،مقام يتلألأ بصفائح الذهب ،يقصده الملايين من الزوار من شتى انحاء العالم طوال أيام السنة ، ليس هذا وحسب ،بل حتى أبنته زينب ،وفي ذات البلاد التي حكمها معاوية وابنه من بعده ، ارتفعت شواهد مقامها .
مقابل ذلك ،لا أحد يعرف مقاماً ليزيد ،ولايعرف معظم أهل الشام قبراً لمعاوية ، فهو ينزوي في ركن مهمل قريب من سوق الحميدية ، والغريب ان الزقاق الواصل الى مقام أحدى بنات الحسين ،يمرّ بالقرب من قبر معاوية دون ان يلتفت اليه أحد .
ذلك وصف لما هو واقع فعلاً ، مايدعو لتساؤل آخر : هل هناك تاريخ خاص بالنفوس ،غير مرئي ولاتعرف أسبابه أو يمكن الاقتراب منه علمياً وفق مجريات التاريخ ؟؟ – اذا استثنينا الارادة الالهية – .
40 عاماً من السلطة المطلقة والبذخ الأسطوري ،ومئات الشعراء والمؤرخين ورجال الدين والكتّاب والمدّاحين ، عجزوا عن ترقية معاوية ، الى مصاف من يخلد في النفوس ؟؟ في مقابل رجل هوجم عبر أزمنة طويلة ومايزال ،عبر منابر وخطب وشعراء ورواة حديث ، لم يتركوا منقبة له الا ثلبوها ، ولاصفة حميدة الا استنكروها وانكروها ، ومع ذلك شق هذا الرجل طريقه وازداد حضوراً ومهابة في تاريخ النفوس ،في جدلية فريدة من نوعها ، فالمتعارف عليه ان الدعاية المضادة ، يفترض ان تحفر في النفوس وتراكم فيها ماتريد تحقيقه ، لكن الإمام علي ،دون أن يسعى الى ذلك ،لا طلباً لخلود ،ولابحثاً عن مجد ، تربع على عرش النفوس ،واكتسب احترام الانسان ،حيث وجد الانسان (*).
(*) في بيروت ،وفي دردشة مع البروفيسور جورج زكي الحج ، استاذ الادب العربي في الجامعة اللبنانية ، قال : درست التاريخ العربي بعناية وتفصيل ،وأنا اعتبر نفسي ابن إله – السيد المسيح –لكني لم أجد في الاسلام افضل من علي ،واستغرب كيف لأمة ان تكره هذا الرجل ؟؟
(**) في الحكاية الأسطورية ،ان النبي نوح حين اراد بناء السفينة ،كلّف العملاق الهائل عوج بن عنق ، بجلب الحطب ،وحين عاد ،كان على رأسه حطباً أكثر مما يحتاجه بناء السفينة ، لكن العملاق بعد ان انزل عن رأسه ، اعتذر من النبي بأنه نسي (الكارة) أي الحمل الاساسي من الحطب ،ولم يجلب سوى وقاء الرأس .
الإمام علي ،وبما تسرب عنه من ثقوب التاريخ ، كانت كافية كي ينزرع في النفوس ،صورة شخصية احتوت كل ما يمكن ان يجعله مكتمل الصفات ،شجاعة وحكمة وبلاغة وتواضع وزهد وكرم وشعر ، وكل واحدة من هذه الصفات كفيلة بتخليده ،فحاتم طي اشتهر بالكرم، وابن شداد ذاع صيته كفارس وشاعر ، وأكثم بن صيفي عرفته العرب واحبته لبلاغته ،والامثلة تطول ،فكيف اذا اجتمعت كل هذه الصفات في شخصية واحدة؟؟
لكن الأكثر من ذلك هي تلك المعادلة : كلما كثر اعداؤه ونوعوا من اساليبهم في مهاجمته ،كلما ازدادت اعداد محبيه وتنوعت اساليبهم كذلك في اظهار حبهم.
لقد دخل الامام علي تاريخ النفوس ،فيما ترك لاعدائه وخصومه ، التاريخ المنحوس .