في جنوب الله..!
تقي مطشر الشحماني ||
الحديث عن الغناء في الريف العراقي ذو شجون. فالتحدث عنه يحتاج إلى شخص له باع طويل بمعرفة النوتة والتون والأيقاع وأنواع الأطوار والبستات وغيرها. وهذا ما لا يتوفر بي ككاتب. فكيف أورط نفسي لأكتب عن الغناء في الجنوب, وللتخلص من هذه الورطة عمدت إلى إنتقاء نوعين من أطوار الغناء وهما الطور الصبي والطور المحمداوي فهما أكثر الأطوار شهرة في الجنوب.
الطور الصبي-1
وهو نسبة إلى طائفة الصابئة المندائية التي سكنت الأهوار وقرب الأنهارلأعتماد ديانتهم على التطهر بالماء الجاري صباحا ومساء وفي كل مناسباتهم. فأعراسهم تبدأ مراسيمها بتعميد العروسين بالماء، وعند الولادة تتطهر المرأة بالماء، على ان يكون جاريا غير محتبس, ولهذا تواجدوا قرب الأنهار وقرب الأهوار، وهم لا يمتهنون الزراعة حتى لا يضطرهم العمل الزراعي للأسترقاق من قبل الأقطاعيين. لذا نراهم يمتهنون مهنا حرة لا يستطيع أحد مجراتهم فيها:
1- حدادون يصنعون المناجل والخناجر والمساحي والفؤوس والفول (مفردها فالة) وغيرها من ركاب الخيل وحدوة الحصان إلى لجامه.
ب- صناع مشاحيف وهم ماهرون بعملهم وخصوصا اتقانهم طلائها بالقير بعد إتمام صناعتها
ج- صاغة: وهي مهنتهم منذ وجودهم على الأرض ولا يوجد أبرع منهم في ذلك.
لا أريد الخوض من أين جاءوا وما هي ديانتهم ولا لغتهم فقد كُتبت حول ذلك الكثير. ولكن الذي يهمني هو غنائهم، فغناء الطور الصبي فرح ليس به حزن. ويختارون الكلمات الفرحة ثم يغنونها بطورهم الفرح الذي لا يتقيد ببقية الأطوار الأخرى المترعة بالحزن والشجن والاسى، وحتى اختيار شعر أغانيهم يكون من شعر شعرائهم كشعرعباس عمارة أو شعر إبنته الشاعرة الرقيقة لميعه عباس عمارة.
ومن أهم شعرائهم: (1)
عزيز گاري –
وادي واجدس –
درباش غافل-
منصور خيطان –
عوده منصور خيطان-
ناصر خشن-
ومن شعرلميعة المُغنى هذه الأبوذيات الجميلة:
حبيبي من وره الحايط وبصله
واريده لو على خبزه وبصله
ألف نعله إعلى أبو الشامت وبصله
فرگ روحينا الچانن سوية
أو هذه الأخرى الأجمل
صبي يا دموع العين صبي
على خشف الطلع من بيت صبي
عفت دين الأسلام وصرت صبي
تركت الله وعبدت أشميت هيه
وشميت هيه { بشميت هي }: تعني بسم الله الحي… فهو لم يترك الله إنما إستبدل أسم باسم
وأما في المواليا. فانهم يختارون من أكثرها فرحا. لأنهم أحرار في عملهم ولا سلطة لأحد عليهم ولا ينافسهم احد في رزقهم ولأنهم مقدرون محميون من القبائل التي تجاورهم وهم معها (ذبابة جرش) فلا يتعرض لهم أحد. لذا فان الفرح هو السمة الطاغية في أغانيهم وقد يختارون مثل هذا المواليا للغناء.
يامعدن الدر روحي لو تصل منهلك
ماچان شكوى بدت طول العمر منهلك
تدري بهلاكي وتناشدني بدهر منهلك
من هلك غيري وهل غيرك هلكني احد
اهلك رموني بتهم من جور هجرك احد
سلمت أمري وأمرهم بيد واحد احد
عسى الله ياخذ حوبتي ومنهلك
2- الطور المحمداوي.. وهو نسبة إلى قبيلة البو محمد المتعددة الأفخاذ العزاوية الأصل الجنوبية السكن، وهو من أكثر الأطوار حزنا وأسى وانين وشجن، إنه عبارة عن مناحة وليس غناء وخصوصا الطور الذي يغنيه (سيد محمد النوري) أو ( گريري محمد السلمان) أو ( جويسم كاظم الهليجي) وهذا النوع ينتشر في الأراضي التي تقع تحت نير الأقطاعيين المتجبرين أين ما وجد ألاقطاع في جنوب العراق كله، فالفلاح هناك عبارة عن (قن) يُمتلك مع الأرض ويساط كما يساط العبيد وتنتهك كرامته كل يوم من قبل الأقطاعي وأولاده وحوشيته وسراكيله وهم الأيدي الضاربة للأقطاعي. لا يستطيع الفلاح الهرب من مصيره الأسود الذي جعله تحت رحمة وسياط الأقطاعي. فان ترك الأرض. فالى أين يذهب. وهو لا يعرف مهنة غير مهنة الزراعة، فأن هرب فان أسرته ستكون تحت سيطرة الأقطاعي وجوره. عشت فترة الستينات وقبلها لأسمع حكايات أغرب من الخيال عن تعذيب الفلاحين. يروي لي والدي رحمه الله إنهم كانوا يعملون حزمة من القصب (شبّة) على شكل صليب وقرب النهر ثم يوثقون الفلاح عليها عاريا يوم شتاء (يوم الأزرگ) ويمسكونه بالحبال وعندما يرخون الحبال تميل الشبّة لينزل جسم الفلاح المسكين بالماء البارد ويبقونه غاطسا لحين قطع النفس ثم يخرجونه ليتنفس وتعاد لأكثر من مرة، وأعرف أحد الحوشية وابنه صديقي يقول إن والدي كان يستحي السير وخيزرانته ليس عليها دم من ظهور الفلاحين، هذا الوضع إنعكس على أغاني الفلاحين فانقلب الغناء إلى أشبه بالنواح، فكتب كريم راهي مقالة في جريدة الصباح بعنوان (جذور النواعي في غناء الجنوب) بتاريخ 8/10/2022 استعرض فيها أهم الأسباب التي أدت الى هذا الحزن المفعم بالنواح والألم. يمكن الرجوع اليها ( وهي متوفرة في الكوكل).(2)
نعم الفلاح لا يتخاذل فيبكي من الألم لكنه يبكي مع الغناء بحجة أن الغناء مؤثر، وهو ينفس بهذا الغناء من أساه وألمه. وهكذا نشأ غناء الطور المحمداوي، فيختار المغني أقسى أنواع الأبوذية شجنا فيغني أبياتها ولكنه يقطعها إلى مقاطع يسب خلالها الزمن الأسود الذي جعله تحت نير القساة ويأمل الفرج على يد من ينقذه من هذا الظلم
فيأخذ هذه الأبوذية ليغنيها:
يگلبي بيش أخيطنك ولحماك
ولا واحد شگف عنك ولحماك
يجيك الضيم من دمك ولحماك
من أگاطعهم تلوم الناس بيهأ
ثم يأخذ الأغنية فيقطعها هكذا
يطلبي بيش أخيطنك ولحماك
أحاه تسعر نار گلبي.. بعيد الدرب چنهم نسوني.
ولا واحد شگف عنك ولا حماك
شمالك تون بطل يگلبي… ظلام يا خويه الولونه.
يجيك الظيم من دمك ولحماك
مظلوم ألك الله يگلبي… أظنهم لگو غيري ونسوني.
من أگاطعهم تلوم الناس بيه
بنادم على بنادم تسودن…. بعيد إشتمر عنهم يگلبي
وهكذا تستمر المناحه التي ينفس بها الفلاح الفقيرعن الظلم الذي يلحق به واكبر كلمة شتم يقولها بحقهم .. ظلام ياخوية الولونة.. وبأمكانكم اعزائي الدخول إلى اليوتيوب أو الكوكل وطلب أغاني جنوب العراق واكتبوا أمامها محمداوي واستمتعوا بالنواح معها.
وقد عدد كريم راهي أهم ( الصيحات) كما يسميها أو ( الثغيب كما اسميه أنا وهي:
يلوموني المطيهم ألله
إثنينهن ولن إعيوني
مالچ يگل صبرج يروحي
طرگاعتك بگعه يگلبي
طرگاعتك مامش مثلها
بنادم على بنادم تسودن
يلوموني شيردون مني
أنشد على من ضيعوني
أنا شبيدي على أمر الله وشسوي
محد بظيم أحد تكلف
بعيد إشتمر عنهم يگلبي
يمكن لگو غيري ونسوي
وهناك الكثير منها..
وقد عاتبتني احدى زميلاتي لتهجمي على الأقطاعيين. نعم قد ينعدم الظلم في بعض مناطق الفرات الأوسط وكذا في أكثر من عشيرة في الجنوب ولكن يبقى طور المحمداوي صرخة المظلومين ألتي تدوي بوجه الظالمين..