الجمعة - 20 سبتمبر 2024
منذ 3 أسابيع
الجمعة - 20 سبتمبر 2024

عبود مزهر الكرخي ||

 

البكاء في المصيبة
من سنن الله بين عباده هو نزول المصائب والبلايا، ولا يمكن لأحد أن يفر ويخرج من هذه الدائرة، وهي من ‏مسببات البكاء، وقد أشير إلى هذا الأمر في الذكر الحكيم: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ ‏الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ ‏عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ (1). فالله سبحانه وتعالى أمرنا بالصبر والاسترجاع‎.‎
وللمسلمين في النبي(صل الله علي وآله)أسوة حسنة: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو ‏اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ (2)، وقد أمرهم الله بالامتثال لما أمر والانتهاء عما نهى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ ‏فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (3)، فهذه بعض مواقفه (صل الله عليه وآله)في ‏المصائب :‏

محمد بن عقيل عن جابر قال لما سمع النبي(صل الله عليه وآله)ا فعل بحمزة شهق، فلما رأى ما فعل به صعق، ‏ولما عاد النبي(صل الله عليه وآله) إلى المدينة سمع النوح على قتلى الأنصار قال: لكن حمزة لا بواكي له، ‏فسمع الأنصار، فأمروا نساءهم أن يندبن حمزة قبل قتلاهم، ففعلن ذلك (4).‏

لما مات إبراهيم ابن رسول(الله صل الله عليه وآله)قال النبي: حزنَّا عليك يا إبراهيم وإنا لصابرون. يحزن ‏القلب، وتدمع العين، ولا نقول ما يسخط الرب‎.‎
عن الصادق عليه السلام: إن النبي(صل الله عليه وآله) حين جاءته وفاة جعفر بن أبي طالب عليه السلام ‏وزيد بن حارثة كان إذا دخل بيته كثر بكاؤه عليهما جداً، ويقول: كانا يحدثاني، ويؤانساني، فذهبا جميعاً (5).‏

وفي (الخصال): عن محمد بن الحسن، عن الصفار، عن العباس بن معروف، عن محمد بن سهل البحراني (6)، ‏يرفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: البكاؤون خمسة: آدم، ويعقوب، ويوسف، وفاطمة بنت محمد (صلى ‏الله عليه وآله)، وعلي بن الحسين (عليه السلام)، فأما آدم فبكى على الجنة حتى صار في خديه أمثال ‏الأودية، وأما يعقوب فبكى على يوسف حتى ذهب بصره، وحتى قيل له: ﴿تالله تفتؤ تذكر يوسف حتى تكون ‏حرضا أو تكون من الهالكين﴾ (7)، وأما يوسف فبكى على يعقوب حتى تأذى به أهل السجن فقالوا: إما أن تبكي ‏الليل وتسكت بالنهار، وإما أن تبكي النهار وتسكت بالليل، فصالحهم على واحد منهما‎.‎

وأما فاطمة (عليها السلام) فبكت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى تأذى بها أهل المدينة، فقالوا لها: ‏قد آذيتنا بكثرة بكائك، وكانت تخرج إلى المقابر مقابر الشهداء فتبكي حتى تقضي حاجتها ثم تنصرف، وأما ‏علي بن الحسين (عليه السلام) فبكى على الحسين (عليه السلام) عشرين سنة أو أربعين سنة، ما وضع بين ‏يديه طعام إلا بكى حتى قال له مولى له: جعلت فداك، إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال: ” إنما أشكو ‏بثي وحزني إلى الله، وأعلم من الله ما لا تعلمون ” إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلا خنقتني لذلك عبرة (8).‏

فبناء على ما تقدّم لم تكن البكاء مما يلام أو يعاب عليه بالأخص إذا كان هنالك ما يبرر له: كالبكاء من خشية ‏الله، أو عند نزول النوائب كفقد الأحبة وما شاكلها… ولهذا كان البكاء منّ آثار البكاء الإيجابيّة في تنقية روح ‏الإنسان وتكامله ممّا لا يمكن إنكاره، إلّا أن هذا التحليل لا يسعه أن يكون سرّ كلّ هذا التأكيد من الأئمة عليهم ‏السلام في البكاء على الإمام الحسين عليه السلام وذلك الثواب العظيم. ويُدرك كلّ مَن تأمّل الروايات أنّ هناك ‏هدفاً آخر وراء حثّ أهل البيت على البكاء.‏

ولهذا فأن البكاء ” وهي أن القلوب تعمى، وفي مورد آخر من القرآن الكريم:” وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ ‏فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا‎”

فلننظر إلى هذا الربط العجيب بين العمى والضلالة، وكأنما الإنسان يكون أعمى على مستوى البصيرة عندما ‏لا يعقد المحبة الخالصة لله في القلب وبالتالي يتشوّه وعيه، ذلك الوعي المرتبط بتكليفه في الحياة من خلال ‏وعي المفاهيم التي حثّ عليها القرآن الكريم وجسّدها الرسول (ص) وأهل بيته(ع) في حياتهم‎.‎

ألم يُشر الرسول (ص) في حديث له إلى العينين في قلب الإنسان والتي يبصر بهما أمر الآخرة، وإذا أراد بعبدٍ ‏خيراً فتح عينيه اللتين في قلبه؟ وقال الإمام علي(ع) في وصيته للحسن(ع):”أحي قلبك بالموعظة”، وقال ‏الإمام الحسن(ع) :” التفكر حياة قلب البصير”. وهكذا استمرت الدعوة إلى يقظة القلب من خلال أقوال ‏الأئمة(ع) ، ونحن نعلم أن أهل البيت(ع) هم القرآن الناطق ولذلك قال الرسول (ص): “إني تاركٌ فيكم ما إن ‏تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبدا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي”، ألا نرى أنها إشارة إلى ضرورة وعي ‏مفاهيم القرآن الكريم والتفكّر بما ورد فيه بالموازاة مع ضرورة وعي سيرة أهل البيت (ع) وتدبّر ما ورد فيها ‏بهدف واحد: أن لا نقع في الضلالة أي ألا تعمى قلوبنا، وهذا معنى توافقي تام مع ما حثّ الله عليه من خلال ‏الآيات السابقة‎.‎

يرتبط مفهوم البكاء بالقلب بحسب ما هو متعارف عليه بين الناس، والبكاء هو التعبير الظاهري للحالة التي ‏تعتري قلب الإنسان، وأسبابه تترواح ما بين شدة الإيمان وشدة الحزن‎.‎
لقد بكى يعقوب على يوسف، وبكى الرسول على فقده لعمه حمزة ولزوجته خديجة، كما بكت الزهراء (ع) ‏على والدها (ص)، والأئمة (ع) من بعد الحسين(ع) بكوا على ما حصل في واقعة الطف. إذن، البكاء مطلوب ‏حتى أن الإمام علي (ع) قال :” ما جفت الدموع إلا لقسوة القلوب وما قست القلوب إلا لكثرة الذنوب “، ‏وبالتالي إن كان البكاء يساعد في التفريغ عن الحالة النفسية للفرد فلا بد أن يساهم أيضاً في التنمية الروحية، ‏وغسل القلوب وتطهيرها، وترسيخ القيم التي ضحّى في سبيلها الأنبياء (ص) والأئمة (ع) ليتحوّل عندها إلى ‏أداة إصلاحية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ” (9).‏
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.‏
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر : ‏
‏1 ـ البقرة: 156 ــ 157.‏
‏ 2 ـ ابن الأثير، أسد الغابة في معرفة الصحابة، ج 2، ص 48‏
‏ 3 ـ القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: ج10، ص220.‏
‏4 ـ ابن الأثير، أسد الغابة في معرفة الصحابة، ج 2، ص 48.‏
‏5 ـ وسائل الشيعة (آل البيت) – الحر العاملي – ج ٣ – الصفحة ٢٨٠. منشورات مكتبة الشيعة. الفقيه ١: ١١٣ / ٥٢٧. الخصال: ‏‏٢٧٢.‏‎.‎
‏6 ـ في الأمالي: النجراني‎.‎
‏7 ـ ‏‎) ‎يوسف ١٢: 85‏‎.‎
‏8 ـ ـ وسائل الشيعة(آل البيت)- الحر العاملي – ج ٣ – الصفحة ٢٨٠. منشورات مكتبة الشيعة. أمالي الصدوق: 121 / 5.‏
‏9 ـ مأخوذ من مقال بعنوان(فلسفة البكاء على الإمام الحسين (ع): مقاربة دينية تربوية). بقلم الدكتورة تغريد حيدر | أخصائية نفسية ‏ومدربة في مجال الإرشاد الأسري. موقع ملتقى أقلامنا. منشور بتاريخ 6 / 3 / 2024.‏