البكاء على الحسين / 2
عبود مزهر الكرخي ||
البكاء في المصيبة
من سنن الله بين عباده هو نزول المصائب والبلايا، ولا يمكن لأحد أن يفر ويخرج من هذه الدائرة، وهي من مسببات البكاء، وقد أشير إلى هذا الأمر في الذكر الحكيم: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ (1). فالله سبحانه وتعالى أمرنا بالصبر والاسترجاع.
وللمسلمين في النبي(صل الله علي وآله)أسوة حسنة: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ (2)، وقد أمرهم الله بالامتثال لما أمر والانتهاء عما نهى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (3)، فهذه بعض مواقفه (صل الله عليه وآله)في المصائب :
محمد بن عقيل عن جابر قال لما سمع النبي(صل الله عليه وآله)ا فعل بحمزة شهق، فلما رأى ما فعل به صعق، ولما عاد النبي(صل الله عليه وآله) إلى المدينة سمع النوح على قتلى الأنصار قال: لكن حمزة لا بواكي له، فسمع الأنصار، فأمروا نساءهم أن يندبن حمزة قبل قتلاهم، ففعلن ذلك (4).
لما مات إبراهيم ابن رسول(الله صل الله عليه وآله)قال النبي: حزنَّا عليك يا إبراهيم وإنا لصابرون. يحزن القلب، وتدمع العين، ولا نقول ما يسخط الرب.
عن الصادق عليه السلام: إن النبي(صل الله عليه وآله) حين جاءته وفاة جعفر بن أبي طالب عليه السلام وزيد بن حارثة كان إذا دخل بيته كثر بكاؤه عليهما جداً، ويقول: كانا يحدثاني، ويؤانساني، فذهبا جميعاً (5).
وفي (الخصال): عن محمد بن الحسن، عن الصفار، عن العباس بن معروف، عن محمد بن سهل البحراني (6)، يرفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: البكاؤون خمسة: آدم، ويعقوب، ويوسف، وفاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله)، وعلي بن الحسين (عليه السلام)، فأما آدم فبكى على الجنة حتى صار في خديه أمثال الأودية، وأما يعقوب فبكى على يوسف حتى ذهب بصره، وحتى قيل له: ﴿تالله تفتؤ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين﴾ (7)، وأما يوسف فبكى على يعقوب حتى تأذى به أهل السجن فقالوا: إما أن تبكي الليل وتسكت بالنهار، وإما أن تبكي النهار وتسكت بالليل، فصالحهم على واحد منهما.
وأما فاطمة (عليها السلام) فبكت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى تأذى بها أهل المدينة، فقالوا لها: قد آذيتنا بكثرة بكائك، وكانت تخرج إلى المقابر مقابر الشهداء فتبكي حتى تقضي حاجتها ثم تنصرف، وأما علي بن الحسين (عليه السلام) فبكى على الحسين (عليه السلام) عشرين سنة أو أربعين سنة، ما وضع بين يديه طعام إلا بكى حتى قال له مولى له: جعلت فداك، إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال: ” إنما أشكو بثي وحزني إلى الله، وأعلم من الله ما لا تعلمون ” إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلا خنقتني لذلك عبرة (8).
فبناء على ما تقدّم لم تكن البكاء مما يلام أو يعاب عليه بالأخص إذا كان هنالك ما يبرر له: كالبكاء من خشية الله، أو عند نزول النوائب كفقد الأحبة وما شاكلها… ولهذا كان البكاء منّ آثار البكاء الإيجابيّة في تنقية روح الإنسان وتكامله ممّا لا يمكن إنكاره، إلّا أن هذا التحليل لا يسعه أن يكون سرّ كلّ هذا التأكيد من الأئمة عليهم السلام في البكاء على الإمام الحسين عليه السلام وذلك الثواب العظيم. ويُدرك كلّ مَن تأمّل الروايات أنّ هناك هدفاً آخر وراء حثّ أهل البيت على البكاء.
ولهذا فأن البكاء ” وهي أن القلوب تعمى، وفي مورد آخر من القرآن الكريم:” وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا”
فلننظر إلى هذا الربط العجيب بين العمى والضلالة، وكأنما الإنسان يكون أعمى على مستوى البصيرة عندما لا يعقد المحبة الخالصة لله في القلب وبالتالي يتشوّه وعيه، ذلك الوعي المرتبط بتكليفه في الحياة من خلال وعي المفاهيم التي حثّ عليها القرآن الكريم وجسّدها الرسول (ص) وأهل بيته(ع) في حياتهم.
ألم يُشر الرسول (ص) في حديث له إلى العينين في قلب الإنسان والتي يبصر بهما أمر الآخرة، وإذا أراد بعبدٍ خيراً فتح عينيه اللتين في قلبه؟ وقال الإمام علي(ع) في وصيته للحسن(ع):”أحي قلبك بالموعظة”، وقال الإمام الحسن(ع) :” التفكر حياة قلب البصير”. وهكذا استمرت الدعوة إلى يقظة القلب من خلال أقوال الأئمة(ع) ، ونحن نعلم أن أهل البيت(ع) هم القرآن الناطق ولذلك قال الرسول (ص): “إني تاركٌ فيكم ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبدا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي”، ألا نرى أنها إشارة إلى ضرورة وعي مفاهيم القرآن الكريم والتفكّر بما ورد فيه بالموازاة مع ضرورة وعي سيرة أهل البيت (ع) وتدبّر ما ورد فيها بهدف واحد: أن لا نقع في الضلالة أي ألا تعمى قلوبنا، وهذا معنى توافقي تام مع ما حثّ الله عليه من خلال الآيات السابقة.
يرتبط مفهوم البكاء بالقلب بحسب ما هو متعارف عليه بين الناس، والبكاء هو التعبير الظاهري للحالة التي تعتري قلب الإنسان، وأسبابه تترواح ما بين شدة الإيمان وشدة الحزن.
لقد بكى يعقوب على يوسف، وبكى الرسول على فقده لعمه حمزة ولزوجته خديجة، كما بكت الزهراء (ع) على والدها (ص)، والأئمة (ع) من بعد الحسين(ع) بكوا على ما حصل في واقعة الطف. إذن، البكاء مطلوب حتى أن الإمام علي (ع) قال :” ما جفت الدموع إلا لقسوة القلوب وما قست القلوب إلا لكثرة الذنوب “، وبالتالي إن كان البكاء يساعد في التفريغ عن الحالة النفسية للفرد فلا بد أن يساهم أيضاً في التنمية الروحية، وغسل القلوب وتطهيرها، وترسيخ القيم التي ضحّى في سبيلها الأنبياء (ص) والأئمة (ع) ليتحوّل عندها إلى أداة إصلاحية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ” (9).
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر :
1 ـ البقرة: 156 ــ 157.
2 ـ ابن الأثير، أسد الغابة في معرفة الصحابة، ج 2، ص 48
3 ـ القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: ج10، ص220.
4 ـ ابن الأثير، أسد الغابة في معرفة الصحابة، ج 2، ص 48.
5 ـ وسائل الشيعة (آل البيت) – الحر العاملي – ج ٣ – الصفحة ٢٨٠. منشورات مكتبة الشيعة. الفقيه ١: ١١٣ / ٥٢٧. الخصال: ٢٧٢..
6 ـ في الأمالي: النجراني.
7 ـ ) يوسف ١٢: 85.
8 ـ ـ وسائل الشيعة(آل البيت)- الحر العاملي – ج ٣ – الصفحة ٢٨٠. منشورات مكتبة الشيعة. أمالي الصدوق: 121 / 5.
9 ـ مأخوذ من مقال بعنوان(فلسفة البكاء على الإمام الحسين (ع): مقاربة دينية تربوية). بقلم الدكتورة تغريد حيدر | أخصائية نفسية ومدربة في مجال الإرشاد الأسري. موقع ملتقى أقلامنا. منشور بتاريخ 6 / 3 / 2024.