الاثنين - 16 سبتمبر 2024

مع عامل الغيب مرة أخرى..!

منذ أسبوعين
الاثنين - 16 سبتمبر 2024

الشيخ حسن عطوان ||

🖋 يقول عزَّ وجلّ في كتابه المجيد :

( هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ ) [ الحشر : 2 ]

ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية الكريمة ما حاصله :

أنّه كان في المدينة المنورة ثلاث قبائل من اليهود ، هم : بنو النضير وبنو قريظة وبنو قينقاع ، وذكرت بعض المصادر التاريخية أنّهم لم يكونوا من أهل الحجاز وإنّما قدموا إليها واستقرّوا فيها ، منتظرين ظهور نبيٍّ في أرض المدينة ، وهو ما بشرت بظهوره كتبهم ( 1 ) .

‏وعندما هاجر الرّسول الأكرم ( صلّی اللّه عليه وآله وسلّم ) إلی المدينة عقد معهم حلفاً بعدم تعرّض كلّ منهما للآخر ، إلّا أنَّ زعمائهم بعد أنْ رأوا تعرض مصالحهم للخطر ، تناسوا أنّهم كانوا ينتظرون هذا النبي الموعود !

بل كلّما وجدوا فرصة نقضوا العهد مع المسلمين .

‏ومن جملة ذلك : أنّهم نقضوا العهد بعد غزوة أُحدّ ، فقد ذهب زعيم قبيلة بني النضير مع أربعين فارساً إلی مكّة ، وعقد مع قريش حلفاً لقتال الرسول .
وقد أعلم الوحيُ الرسول بذلك .

‏ومرة أخرى حينما جاء رسول اللّه ( صلّی اللّه عليه وآله وسلّم ) مع بعض الصحابة إلی قبيلة بني النضير لإستقراض مبلغ من المال منهم ، لدفع ديّة شخصين قتلهما أحد المسلمين من قبيلةٍ لم تكن في حرب معهم ، فبينما كان رسول اللّه ( صلّی اللّه عليه و آله وسلّم ) يتحدّث مع زعيمهم حاكوا مؤامرة لاغتياله ، إذ قال قائل منهم : إنّكم لا تحصلون علی هذا الرجل بمثل هذه الحالة ، وها هو قد جلس بالقرب من حائطكم ، فليذهب أحدكم إلی السطح ويرميه بحجر عظيم ويريحنا منه ، فقام أحدهم وذهب إلی السطح لتنفيذ ذلك ، إلّا أنَّ رسول اللّه علم بذلك عن طريق الوحي ايضاً ، فخرج وعاد إلی المدينة .

ولهذا ولغيره من مؤامرات ، جاء الأمر للمسلمين أنْ يتحرّكوا لقتال هذه الشرذمة الناقضة للعهد .

‏وعندما علم بنو النضير بذلك لجأوا إلی قلاعهم وحصونهم المحكمة ، و أحكموا غلق الأبواب ، واستمرّ الحصار لأيّام وليالٍ عدّة ، فلمّا عرف اليهود أنَّ المنافقين في المدينة – الذين كانوا قد حرّضوا اليهود ووعدوهم بالنصرة – لن يفوا بوعودهم ، ومثلهم مشركوا مكة ، وعرفوا إصرار المسلمين على قتالهم وأنّهم هالكون لا محالة ، أصابهم الرّعب واختاروا الرحيل ، وتركوا أراضيهم وبساتينهم وبيوتهم بعد أنْ قاموا بتخريب بعضها عند خروجهم .

‏هذا ملخص ما جاء في أسباب نزول هذه المباركة .

🖋 أمّا التفسير :

قال جلّ وعلا : ( هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ ) .

🖋 لفظة ( حشر ) في الأصل : تُطْلق على كلِّ اجتماع وخروج إلی ميدان ما ، كاجتماع جماعة وخروجها أو إخراجها إلی ميدان حرب أو الى عمل جماعي ، وما إلی ذلك .
ومنه الحشر في يوم القيامة .

و المقصود هنا : أمّا اجتماع المسلمين وتحركهم من المدينة إلی قلاع اليهود ، أو اجتماع اليهود وخروجهم الى قلاعهم .

فيكون معنى قوله سبحانه : ( هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ) : أنّه جلَّ وعلا هو الذي أخرج اليهود من قلاعهم وحصونهم .

وتوجد تفاسير أخرى ، ولكن ما ذكرته أرجحها .

🖋 ( لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ) : لأنَّ هذا كان أول إخراج لليهود من منطقة سكنوها في جزيرة العرب .

وفي ذلك إشارة لطيفة لوقائع إخراجهم الآتية .

🖋 ثم يقول عزّ اسمه : ( ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّـهِ‌ ) :

لقد أخذ الغرور باليهود الى الحدّ الذي اعتمدوا فيه علی حصونهم المنيعة وقوتهم الظاهرية ، ونسوا قدرة الله عليهم .

بل كان هذا هو ظن الكثير من المسلمين ايضاً !

ولكن لله جلّتْ قدرته حسابات أخرى :

( فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ) ، فأخرجهم منها بدون قتال !
وجعلهم يخربون ممتلكاتهم بأيديهم ، وهي التي ظنوا أنّها ستحميهم من دون الله !

‏فالمسلمون كانوا يخرّبون الحصون من الخارج ليدخلوا إلی داخلها ، واليهود كانوا يخرّبونها من الداخل لكي لا يستفيد منها المسلمون .

ولعل لهذا معنىً كنائياً ، كما يُقال : إنَّ الشخص الفلاني هدم بيته وحياته بيده ، يعني أنّه بسبب جهله و تعنّته دمّر حياته .

🖋 ثم يقول تعالى : ( فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي‌ الْأَبْصارِ ) :

‏( اعتبروا ) : من مادّة ( اعتبار ) ، وفي الأصل مأخوذة من العبور ، أي العبور من شي‌ء إلی آخر .
ويقال لدمع العين ( عَبْرة ) لعبور قطرات الدموع من العين .

‏ويقال للحوادث التي فيها دروس وعظات : ( عِبَر ) ؛ لأنّها تعبر بالمتأمل من الماضي الى الحاضر .

🖋 و ( أولي الأبصار ) هم مَن يتعامل مع الأمور بعين البصيرة .

والمراد من الإعتبار : هو مقايسة الحوادث الحاضرة بما يشابهها من الحوادث الماضية ، كما لو كنّا بصدد معرفة الموقف من التفاوض مع الأعداء من اليهود أو داعيميهم ، إذ لابد أنْ نستحضر دائماً أنَّ هؤلاء لا عهد لهم ولا ذمّة ، هذا درس .

🖋 والدرس الأهم :

إنّه وإنْ كنّا نرى أنَّ العدو يمتلك من مقومات القوة ما لا نمتلك ، فعلينا أنْ نضع في الحساب أنَّ الله جلّتْ قدرته معنا ، وإنّه سينصرنا بنصره ..

ولكن بعد أنْ نهيىء ما أمرنا هو سبحانه بتهيئته من قوة ، وبعد أنٌ نُخْلص النوايا فيكون نفيرنا وجهادنا في سبيله .

*********

( 1 ) جاء في السيرة النبوية : ” لم يكن أحد من العرب أعلم بشأن رسول الله ( صلى الله عليه [ وآله ] وسلّم ) منّا ، كان معنا يهود ، وكانوا أهل كتاب ، وكنا أصحاب وثن ، فكنا إذا بلغنا منهم ما يكرهون قالوا : إنَّ نبياً مبعوثاً الآن قد أظل زمانه نتبعه ، فنقتلكم معه قتل عاد وإرم ، فلما بعث الله رسوله اتبعناه وكفروا به ، ففينا والله وفيهم أنزل الله عز وجل : ( وَ لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّـهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّـهِ عَلَى الْكافِرِينَ ) [ البقرة : 89 ] ” .

[ ابن إسحاق ، محمد ، ( ت : 151 هج ) ، السيرة النبوية ، ( المعروف بسيرة ابن اسحاق ) ، ج 2 ، ص 63 ، بحسب نسخة مكتبة الشيعة الإلكترونية ] .

***

عظّم الله أجوركم .

[ حسن عطوان ]
25 / صفر الخير / 1446 هج .

https://t.me/+dfbSHH50x3c1MjE6