الاثنين - 09 سبتمبر 2024

وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ  (1)

منذ أسبوع واحد
الاثنين - 09 سبتمبر 2024

الشيخ حسن عطوان ||

عندما يمدح إنسان انساناً فقد يُحتمل في هذا المدح المجاملة وغلبة العاطفة ، لاسيّما عندما لا يكون المادح معصوماً .

أمّا أنْ يصف الله سبحانه إنساناً بأنّه على خُلُق عظيم ، بعبارة اشتملت على أقوى المؤكِدات ، ف ( إنَّ ) تفيد التوكيد ، ولام الإبتداء المزحلقة في ( لعلى ) تفيد التوكيد .

فأي مستوى من الخُلُق كان عليه رسول الله ؟؟

🖋 أخلاقٌ تحملت جلف الأعراب ..
وهي تجسيدٌ كامل لخُلق القرآن ..

كان ( صلى الله عليه وآله وسلَّم ) لا يدعو الناس لشيء إلّا ويبدأ بنفسه .

‏عندما كان يدعو الناس لعبادة اللّه سبحانه فقد كان أعبدَ الناس جميعاً ،

وإذا نهاهم عن شيء فهو الممتنع عنه قبل الجميع .

رُمي بالحجارة ..
وألقيت على رأسه الأوساخ ..
وأُتهم بالجنون والسحر والكذب ..
وكان يقابل كل ذلك بالنصح والصفح ،
والدعاء لهم بالهداية والرشد ..

🖋 روى ابن ماجة في سننه قال :

( أتى النبي ( صلى الله عليه [ وآله ] وسلم ) رجل فكلمه ، فجعل ترعد [ من هيبة الرسول ]
فرائصه ، [ الفريصة : لحمة بين الكتف والصدر ترتعد عند الفزع ]
فقال له : هوّنْ عليك ، فإنّي لست بملِك ، إنّما أنا ابن امرأة تأكل القديد [ القديد هو اللحم المجفف ، كناية عن البساطة ] ) ( 2 ) .

🖋 ويصفه وصيُّه أمير المؤمنين بأنّه :

( طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ ، قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ وَأَحْمَى مَوَاسِمَهُ ، يَضَعُ ذَلِكَ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ وَآذَانٍ صُمٍّ وَأَلْسِنَةٍ بُكْمٍ ، مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ وَمَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ ) ( 3 ) .

🖋 ‏( طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ ) :

فهو كالطبيب لمرضاه ، لكنّه لا ينتظر من المرضى أنْ يأتوه ، بل هو يذهب اليهم ..

مع أنَّ حال مرضاه أصعب من حال سائر المرضى ..

مرضاه مرضى ً في قلوبهم وعقولهم ،
مرضاه جهلة ويجهلون أنّهم جهلة ومرضى ، فلا يقصدون طبيباً ، لذلك لا علاج لهم إلّا عند طبيب يقصدهم ، ليُشَخّص لهم المرض والعلاج .

🖋( قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ وَأَحْمَى مَوَاسِمَهُ )

المراهم : جمع مَرْهَم ، وهي زيوت ودهون توضع على الرأس والجلد للعلاج .

والمواسم : جمع ميسم بالكسر ، يجمع على مواسم ومياسم ، وهي آلة حديدية توضع في النار لتوسم بها الإبل والمواشي ؛ لكي تُعْرف .

🖋 ( قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ ) :

فهو ( صلى الله عليه وآله ) كان يستعمل المراهم في موضعها وموطن حاجتها حيث تنفع .

🖋 ( وَأَحْمَى مَوَاسِمَهُ ) :

ويستعمل الكي بالحديد حيث لا تنفع المراهم .

وبعبارة : أنّه ( صلى الله عليه وآله وسلَّم ) وهو طبيب الأرواح كان تارة يعالج مرضاه بالمراهم حيث يرى كفاية ذلك ، وأخرى يعالجهم بالكي بالمواسم ، حيث لا تنفع معهم المراهم .

🖋 وهناك معنى آخر ، وهو :

إنّه ( صلى الله عليه وآله وسلَّم ) كان قد استعمل اسلوبين في تربية الأمّة :

1. ( قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ ) : أي استعمل اللين والترغيب حيث ينفعان .

2. ( وَأَحْمَى مَوَاسِمَهُ ) : أي استعمل الحزم والشدة والتخويف ، حيث يقتضي الأمر لذلك .

وقد قدّم الإمام إحكام المراهم على إحماء المواسم في إشارة لتقديم الرفق واللين على الشدة والخشونة .

🖋 وهنا إشارة لطيفة ، إنّه أحياناً يكون نفس الإحماء ، اي التهديد بالكي والشدة كافياً في العلاج ولو لم يُستعمل ذلك فعلاً .

🖋 ( يَضَعُ ذَلِكَ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ وَآذَانٍ صُمٍّ وَأَلْسِنَةٍ بُكْمٍ ، مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ وَمَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ ) :

فهو ( صلى الله عليه وآله وسلَّم ) كان مع أمته ، يعيش في وسطها ، لذلك كان يعرف جيداً مواطن الضعف فيها ، ونقاط قوتها ، ومتى تغفل ، وأين تتحير ، وبأي شيء تتأثر ، وكيف تُعالج .

🖋 وعن أمير المؤمنين ايضاً أنّه قال :

( كُنَّا إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللهِ ( صلى الله عليه وآله ) ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَّا أَقْرَبَ إِلَى الْعَدُوِّ مِنْهُ ) ( 4 )

قال الشريف الرضي :

ومعنى ذلك : ‏” أنّه إذا عَظُم الخوفُ من العدو واشتد عِضَاضُ الحربِ [ أصله عض الفرس ، مجاز عن إهلاكها للمتحاربين ] ،
فَزِعَ المسلمون إلى قتال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بنفسه ، [ أي : لجأوا الى طلب رسول الله ليقاتل بنفسه ] ،
فيُنزِلُ الله تعالى النصر عليهم .

وقوله ( عليه السلام ) : ( إذَا احمّر البأس ) كناية عن إشتداد الأمر .

السلامٌ عليك يا رسول الله ..

عظّم الله أجوركم ، ورزقنا وإيّاكم شفاعة رسوله وأهل بيته الطاهرين .

**********

( 1 ) القلم : 4 .

( 2 ) القزويني ، محمد بن يزيد ، ( ابن ماجة ) ، ( ت : 273 هج ) ، الحديث ( 3312 ) ، ج 2 ، ص 1101 ، الناشر : دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع .

( 3 ) نهج البلاغة ، الخطبة : 108 .

( 4 ) نهج البلاغة ، من غريب كلامه المحتاج الى تفسير ، رقم ( 9 ) .

************

[ حسن عطوان ]

https://t.me/+dfbSHH50x3c1MjE6